|


أحمد الحامد
أثاث
2018-04-14

مشروع نقل الأثاث مشروع لا يخسر؛ لأن الإنسان لا يتوقف تنقلاً، ولأن الرحيل بأي حال من الأحوال واقع لا بد منه، يحزنني منظر الأثاث وهو محمل على عربات النقل، شاحب تخنقه الحبال، مكدس دون احترام لتاريخه أو حتى لطموحه عندما كان جديدًا في صالات العرض، طموحه الذي كان يأمل أن يسكن بيتًا مستقرًّا يحافظ عليه، متخيلاً سيل المدائح عن ألوانه وعن راحة الجلوس عليه من أفواه الزائرين.



 ابتسامته وهو يشاهد المشترين وهم ينظرون إليه بإعجاب وفرح، مشهد قبول الرجل بشرائه من أجل زوجته مشهد لا ينساه، نظراته لأصدقائه الذين سيودعهم مغادرًا صالة العرض.



قدر الأثاث يشبه قدر الإنسان ويشبه حظه أيضًا، لكل أثاث ماضٍ، وذاكرة علمته أن لا وفاء من الإنسان: إلى أي مصير يأخذني إليه.. عاريًا على عربة نقل؟ أهكذا يعاملني وأنا الذي لم أنطق يومًا بكلمة تخالف كل غبائه الذي استمعت إليه صامتًا! إلى أين يأخذني؟ هل اشترى أثاثًا جديدًا وما عاد بحاجة لي..؟ لقد صمدت صبرًا على كل الليالي التي نام بها لساعات طويلة فوق وسائدي.. هل اشتكيت منه يومًا؟ هل قلت له إنني للجلوس ولست للنوم.. إلى أين يأخذني وأين سيضعني؟ هل يقبل أن يضع أبناءه الذين كبروا وهم يقفزون فوقي في مستودع مظلم..؟ هل يقبل أن يعطي أحد أبنائه لبائعي الأثاث المستعمل.. يبيعهم ليتخلص منهم دون أي مساومة جادة على السعر؟.



كلما شاهدت الأثاث راحلاً على عربة نقل آمل ألا يكون قد سبقه رحيل للحب، بين قلبين افترقا وآلت كل آمال حبهما للضياع، كل خيالات ما قبل العناق الأول، بريق أعينهم وهم يختارون أسماء أبنائهم للمستقبل القريب، وعودهم وحكاياهم عن أيام طفولتهم، هداياهم ابتساماتهم في الصور، أصواتهم وضحكاتهم في المكان.. غضبهم وحزنهم، دموعهم وفراقهم، قسوتهم على بعضهم في الكلام بعد الافتراق وحرق كل الطرق التي تؤدي إلى العودة، الحقيقة الكاملة لما حصل لا يعرفها أحد كما يعرفها الأثاث، هو الشاهد على كل شيء، هو الحكيم الذي شاهد أسرار السعادة وعرف أسباب الفراق، هو مستودع الأسرار، والكتوم الذي يرحل ويتفرق دون أن ينبس بكلمة واحدة ودون أن يختار مكان منفاه، ودون أن يُشكر على حسن أيامه، وداعًا أيها الحزين، لم يغير منظر عربات النقل يومًا من نبل الراحلين.