|


أحمد الحامد
عندما يكون النسيان موهبة
2018-04-12



من رحمة الله عز وجل أنني أنسى كثيرًا، أنسى ما تخيَّلته، أو ما سمعته، أو ما حدث معي. بعض الأحداث لا أتذكرها إلا إذا قام أحد ما بسردها أمامي. أعتقد أن "مرابح" النسيان أكثر من خسائره، لأنه يجدِّد لك المساحات، ولا يحمِّلك ثقل كل ما تمرُّ به، سواء كان سعيدًا، أم حزينًا. يجعلك تعدو من جديد، ويطلق لك الخيال  والتأمل والعمل بنشاط، وكأنك لم تتعب. 



لا يعني ذلك أنني أنسى تمامًا، بعض الأمور يجب الاستفادة منها، خاصة تلك التي تعطيك خبرة وفوائد التجارب. فوائد التجارب تخزَّن في أعماق الإنسان، وتظهر في الوقت المناسب، حينها تشعر أن ما خسرته ذات يوم تكسبه الآن. 



بعض العادات التي جُبِلَ عليها الإنسان لا ينفع معها النسيان شيئًا، خاصة تلك التي تعيش داخل جيناتك، تلك التي أعطتك الطباع والخصال.



الذين تخلَّصوا من بعض الطباع السيئة أبطالٌ في هذه الحياة، الذين ينسون كثيرًا يقال عنهم إنهم لا يتعلَّمون، ولا يحفظون دروس الحياة، لكنَّ الذين يعتقدون ذلك، يتناسون أن هؤلاء رشيقون على الأرض، ولا يتورطون مع منغصات الحياة مثل الإطالة في "الزعل" والغضب والحزن، أو حتى الحقد على أحد ما فترات طويلة قد تمتد إلى آخر العمر. 



بعض الذين لا يمتلكون موهبة النسيان يتوقفون عند محطة التذكر دائمًا، ولا يتقدمون، تمضي أمامهم القطارات والسفن والطائرات، وهم في أماكنهم، وفي محطات انتظارهم، يتذكَّرون ما حدث في ماضيهم، 

أو ما فقدوه من فرص، يقفون طويلًا، ويحرقون سنوات عمرهم شموعًا لليلهم الذي طال كثيرًا، وفي الوقت نفسه طال انتظار فجرهم الذي لم يمضوا نحوه. 



النسيان لا يسمح لك بأن تمارس دور الضحية حتى إن ظُلِمت، النسيان يكسر "البراويز" كلها، ويسمح لك بأن ترسم لوحة لا حدود لها. 



عزيزي القارئ: أنا لا أتحدث هنا عن نسيان كل صاحب معروف عليك، ولا فضل مجهود الآخرين، بل عن النسيان الذي يسمح لك بأن تنسى ما يثقلك، ويحرِّرك من الآلام، ويمكِّنك من العيش نشيطًا متألقًا لترى الحاضر والمقبل الجميل، وكل ما ينتظرك من خير وراحة وطمأنينة. 



أدعوك إلى ممارسة النسيان، وتجاوز ما يبقيك ساكنًا، وتذكَّر أن الحركة والانشغال، هما أولى الخطوات في طريق النسيان المفيد.