|


هدى الطويل
أن تعيش
2017-05-08

تخيَّل أنك عشت في عالم ليس فيه مرايا، كنت ستحلم بوجهك، كنت ستتخيَّله كنوع من الانعكاس الخارجي لما هو داخلك.. بعد ذلك افرض أنهم وضعوا أمامك مرآة وأنت في الأربعين من عمرك، تخيَّل جزعك، كنت سترى وجهًا غريبًا تمامًا، وكنت ستفهم بصورة جليَّة ما ترفض الإقرار به: وجهك ليس أنت".

ميلان كونديرا


بعد الكوجيتو الديكارتي الشهير "أنا أشك"، الذي صعد إلى "أنا أفكر، إذًا أنا موجود"، انبثقت مرحلة جديدة من مراحل الفكر الإنساني، فكر ذهب بالإنسان إلى الابتعاد عن التفكير بـ "الكوسموس" أو الكون، والتفكير جديًّا بـ "الذات" الإنسانية؛ ما أعاد بناء وهندسة عمارة الفكر الفلسفي من جديد، والأخذ بهما إلى مرحلة أبعد وأعمق.


حين اختار الإنسانُ نفسه على ما سواها، بدأ أولاً طريق العزلة والوحدة، ليتأمل ذاته ويتعرف عليها أكثر؛ فكلمة مثل كلمة "moine" أو "راهب"، تأتي من الكلمة اليونانية "monos" أي "وحيد". وفي الوحدة تستطيع الحكمة أن تتفتح وأن تتحرر، دون أن تُفسد العذابات المرتبطة بكل أشكال التعلق بالآخرين.


لكن لتعيش حياتك، عليك أن تعيشها حقيقةً، لا أن تعيشها بالنيابة، كما ورد في نص الشاعر العراقي علي محمود خضير:

"هذه أغلالك التي تطيرُ بها
هذا سُمُّكَ الذي تنمو به
هذه إشاعتك التي تنجو لأجلها
تخون نفسك
تخون الأشياء التي
تَتَنفّسُك

أنت تعيش حياتك بالنيابة".

لا يمكن تصور الحياة السوِّية، أو العيش المكتمل، دون وجود الحرية؛ فالحرية، هي أساس التفكير، والإيمان، والأخلاق، والأفعال، لا الطبيعة. باختصار أشد، هي أساس بناء الكينونة الإنسانية.



تحدَّثَ كونديرا عن فكرة نيتشه المجنونة، أو كما أسماها "خرافة" نيتشه، تلك المتعلقة بما أسماه نيتشه بـ "العَوْد الأبدي"، والتي تُصوِّر أنَّ كل شيء سيتكرر ذات يوم كما عشناه في السابق، وأنَّ مثل هذا التكرار سيتكرر بلا نهاية.



نيتشه يقرر أنَّ هذه الحياة ميتة سلفًا، متى ما كانت عبارة عن حياة تختفي نهائيًّا، فهي حياة عدمية لا وزن ولا قيمة لها، وهي ميتة ابتداءً؛ لذا فإن فكرة مثل فكرة "العود الأبدي" هي مبرِّر كافٍ للاقتناع بفكرة "الحياة" من الأصل، وبأهمية وجودها من الناحية الفلسفية.



لا يستحضر البعض من الناس أيًّا من طريقتي التفكير تجاه الحياة، لا تلك التي آمن بها نيتشه، أو تلك التي فنَّدها كونديرا. لا يحاول أن يعيشها مراتٍ كثر، ولا أن يعيشها مكتفيًا بها مرةً واحدة، فيضلُّ طريق معرفته بها، وبنفسه، فيعيشها بشكلً بوهيمي تصرفًا لا فكرًا، ذلك أنه لو عقِلَ البوهيمية فكرًا، لقلنا إنه في النهاية إنسان "مفكر"، "حُر"، وصاحب إرادة واختيار؛ فالإنسان في نهاية المطاف، وكما جاء عند أرسطو هو "حيوان مفكر" أي كائن حي، يتميز باختلافه النوعي عن بقية الكائنات الحية الأخرى، بقدرته على التفكير.



أيها القارئ الكريم.. عِش حياتك كما تريد، اختر أن تعيشها مرةً أو أكثر.. لكن عشها حقيقةً لا بـ "النيابة".. والأهم من كل ذلك.. إيَّاك أن تعيشها إلا.. "حُرًّا".