|


فهد عافت
منابر وحكايات من "كيسهم"!
2017-09-09

 

ـ لا أُشكّك في النوايا، ولا في سلامة الهدف، لكن حكايات كثير ممن لهم شكل رجال الدين، تصيبني بغثيان، وأحيانًا أخجل حتى من إتمام سماعها!، وأعجب من جُرأتهم في روايتها، ومن عدم تردّدهم في ذلك!.

 

ـ لا أتحدّث عن سردهم لحكايات مُوثّقة في كتب التراث، أقبل ذلك حتى إنْ بقيت متحفّظًا على عدد ليس بالقليل منها!، لكنني في النهاية لا أعتبر الرّاوي الجديد مسؤولًا عن هفوات الحكاية المُحَبَّرَة منذ ألف سنة أو أقل قليلًا، وعادةً يمكن لي وضع مثل هؤلاء الدُعاة في منطقة الوسَط أو أقل قليلًا، ذلك أن المشايخ الكبار لا يعتمدون أي حكاية فقط لورودها في كتاب بشري!،

 

ـ أمّا من أتحدّث عنهم، وهم للأسف كثير، فهُم أولئك "اليوتيوبيّون" إن صحّ التعبير، الذين يحلو لهم سرد حكايات، هي ما لم تكن "من كيسهم"، فمن عقلهم، ما داروا بها في المجالس وعلى المنابر إلا لأنهم صدّقوها!، ثم اختاروها بذاتها دون سواها لتقديم العِظَات من خلالها!، وبما أن اختيار المرء قِطعةٌ من عقله، فإنه يحق لنا، بل يتوجّب علينا، قياس عقولهم وفكرهم ومدى حُسْن تدبّرهم من خلالها!.

 

ـ حكاية اللّقلق الذي ذاع صيته بعد أن لم يَسلَم شرفه الرفيع من الأذى حتى أُريق على جوانبه الدم، ليست نشازًا في قائمة حكاياتهم، تنتقد مُفنِّدًا، وتقول: لكن اللقالق ليست لها شريعة الإنسان، ولم يُنزّل عليها دين ولا كتاب، هي لما خُلِقَت له بأمر ربّها، فينتفض غرٌّ ويقول لك: لحومهم مسمومة!، قولٌ هارب يدّعي المواجهة!، يأخذك إلى منطقةٍ لم تَمَسّها بسوء، ومن انطلاقةٍ كاذبة، أو فهمٍ مُلْتَبسٍ عن قصدٍ أو عن غير قصد، يطمع في تأسيس مناقشة وحِوَار!.

 

ـ قبل أيام، تابعت مقطع فيديو، يمكن لمن يريد متابعته على اليوتيوب البحث عنه تحت عنوان: "هذه الفتاة مطلوبة على وجه السرعة لن تصدق ماذا فعلت"!، تكشف فيه الكاميرا عن شيخٍ يحكي قصّة فتاة صالحة، يخطبها رجل فترفضه، يعتبر رفضها إهانة، فيلجأ للسحرة يريد تطويعها وإخضاعها، الساحر الأول يطلب مبلغًا، لكنه في اليوم التالي يعتذر، مُقِرًّا بعجزه، ويُوصي بالذهاب إلى ساحر آخر يذكره للرجل، فيذهب إليه ويتكرر طلب المال والموافقة والعودة في اليوم التالي، حيث يعتذر الساحر الثاني ويُقرّ بعجزه، ويوصي بساحر ثالث يصفه بأنه "كبيرهم الذي علّمهم السحر"، فيذهب إليه الرجل وتتكرر الحكاية بحذافيرها، مع تأكيدات أكثر حسمًا: "نجوم السماء أقرب إليك من هذه المرأة"، ـ لماذا؟،ـ لأنها تداوم على قراءة سورة البقرة يوميًّا، انتهت الحكاية!.

 

ـ النِّيّة الصالحة لا تكفي، بل قد يتم خذلان الغاية النبيلة إنْ هي استخدمت وسائل تفتقر إلى النُّبْل ومَشَتْ دروبًا طالحة!،

 

ـ يحتمي أصحاب مثل هذه الحكايات، بغوغائيّة المدافعين عن الغايات النبيلة، فما إن تُنكِر على الشيخ حكايته، حتى تتلقّى الرد، طعنات في صدر نواياك، واتهامات شبه حاكمة على عقيدتك باللا بَراءة!.

 

ـ والمنطقة الوحيدة، التي يمكن لك ولهم الالتقاء فيها، هي هذا السؤال: "وأيًّا كان.. لماذا تُدخِل نفسك في مثل هذه المواضيع؟، لماذا تُفنِّد هذه الحكايات بالذات وتتهمها بالزيف؟!"، مثل هذه الأسئلة مشروعة، والحصول على إجابات منطقية لها أمر يمكنه أنْ يكون محمودًا، وجوابي: لأن مثل هذه الحكايات مِن مثل هؤلاء الناس، تؤسس فوضى وتدعو إلى مصادرة العقل، وهي بذلك تُسيء لأكرم وأعظم نعمة: الإسلام!.

 

ـ قراءة الروايات الجيدة، والكتب عمومًا، تمنح القارئ فوائد يصعب حصرها، من أهمها: القدرة على رؤية المشهد كاملًا، أو شبه كامل، وإدراك المُستتِر منه ورؤية مدى تطابقه واتّساقه مع الظاهر منه!.

 

ـ الظاهر في الحكاية السابقة: امرأة صالحة، تتحصن بالقرآن الكريم، فتنتصر على رجل طالح، وعلى السّحرة صغيرهم وأوسطهم وكبيرهم!، فهل هذا ما نُنكره: بالطبع لا!، وبالتأكيد فإن قراءة القرآن الكريم تجعل بينك وبين الشرور سدًّا بفضل الله، لكن لنقترب من الحكاية أكثر، لنقرأ في المُضمَر والمستَتِر فيها ومنها، لنتأمّل في مستويات سردها، ولسوف نكتشف سريعًا عدم صلاحيتها لدخول العقل، وأنها غير ممكنة الحدوث كحكاية بتفاصيلها، مع التأكيد مرّة أخرى على سلامة الهدف، حيث القرآن الكريم حصن حصين للمسلم!.

 

ـ الخَفِيّ المُضْمَر المُستَتِر في حكايتنا السابقة، يتكشف مع أوّل تدقيق فيها، مع أول زاوية جديدة للنظر، لنراقب السحرة الثلاثة، ونُسقِط الضوء على تصرفاتهم: يا للنبل ويا للنزاهة التي هم عليها، ويا للمصداقية في العمل ومع الناس، ويا للتواضع الكريم في الخُلُق، ويا للتصالح مع الذات في العِلْم والمعرفة!.

 

ـ الساحر الذي من طبيعته الطمع والدجل والكذب واستغلال جهل الناس وعجزهم، يطلب مالًا، لكنه في اليوم التالي يعتذر، مقرًّا بعجزه، وبمحدوديّة ألاعيبه!، يقبل ضياع المال من يديه؛ لأنه لم يعمل بما يُوجِب استحقاقه له، يا سلام سلّم!، بل يزيد، ينصح بالتوجّه لزميل مهنة يشهد له بالأفضليّة عليه!، ولا يكون هذا الفعل شاذًّا واستثنائيًّا؛ فالساحر الآخر يفعل فعل صاحبه، أما الثالث، فإنه لا يبدو فقط "كبيرهم الذي علّمهم السحر"، بل أيضًا كبيرهم الذي علّمهم الخُلُق والمصداقية وعدم التدليس على الزبائن!، الساحر الثالث لا يتمتع فقط بهذه الصفات، هو أيضًا يَهدي إلى الخير، ويُرشد إلى ضرورة التّمسّك بالدين وقراءة القرآن، فهو الذي كشف للرجل سر العجز والاستحالة!.

 

ـ تصديق مثل هذه الحكايات، أو السماح لها بالمرور مع حمايتها من الانتقاد، يؤسس في اللاوعي، كل ما لا خير فيه!، لا يفعل ذلك مباشرةً ولكن بالتدريج، عشر حكايات مثل حكاية اللقلق الذي أقام على لقلقته الحد، تؤسس لفوضى عارمة، فالمحكمة ليست موجودة، لا حاجة إلى قضاء!، والشك يصنع التهمة، والتهمة تثبت بالعقوبة لا بالدّليل!،..

أمّا عشر حكايات مثل حكاية المرأة الصالحة والرجل والسحرة، فإنها تؤسس لقبول الدّجّالين، والاعتراف لهم بفضائل وصفات كريمة طيّبة وحَسَنَة!.