|


صالح الخليف
يا تغنوا انتو..
2018-06-22
لا شيء ينشر ثقافة الشعوب مثل الفن والأكل.. في العالم العربي فعلها المصريون واللبنانيون.. على مستوى العالم هذه التجربة الأمريكية تعطينا برهانًا يغطي عين الشمس.. مصر بفنها وأفلامها وحناجرها فرضت إيقاعها ولهجتها على كل بيت من المحيط إلى الخليج.. المطبخ المصري لم يستطع الخروج من القاهرة والإسكندرية وطنطا والإسماعيلية.. ليس هناك وجبة مصرية نالت إعجاب ذائقة الناس خارج المحروسة، رغم الدعائية السينمائية المركزة على محشي الحمام وملوخية بالأرانب..

المقبلات والمشويات اللبنانية طافت الكرة الأرضية.. لا تخلو مدينة عملاقة على وجه الدنيا لا تحتضن بين جنباتها مطعمًا لبنانيًّا.. كل المدن بما فيها الإفريقية تجد وسطها مطعمًا يقدم التبولة والمحمرة والشيش طاووق..

الأمريكان لا يحتاجون شرحًا طويلًا في هذا الإطار.. البرجر وأفلام هوليوود يكفي حولها الإشارة.. واللبيب بالإشارة يفهم.. كل ما قلته كان مجرد تقديم طويل ومملل للقول إن فنانًا سودانيًّا يدعى محمد الأمين أثار فيَّ الدهشة والغرابة والسكوت في آن واحد.. قبل أشهر انتشر لهذا الفنان الذي يراه السودانيون رمزًا وعلمًا يحيي على خشبة مسرح لا يمكن إحاطته بالمدائح ولا حتى الانتقاص والسباب.. مسرحًا أقرب إلى ساحة في حارة شعبية.. كان الأمين يغني ويشدو فيما الجمهور الذي أظن غالبيتهم دفعوا ثمنًا بخسًا للاستماع لصوته الأجش، يحاول ما استطاع إلى ذلك سبيلا الدخول في حالة طرب مع الأمسية الفنية..

توقف الأمين فجأة وبلا مقدمات وبدأ يخطب في الناس ويوجههم ويعلمهم أصول الاستماع إلى الأغاني، مؤكدًا أنه لا يقدر على الاستمرار وسط تفلت أصوات الحاضرين، وقال كلمته التي صارت كالعنوان العريض: "يا تغنوا انتو يا أغني أنا".. ولأن المقطع مثير للجدل، عرفت أن الأمين اسم فني عملاق ولا يمكن أبدًا الاستهانة به أو تجاوزه أثناء الحديث عن التاريخ الفني للسودان.. لا أعرف أحدًا من أصدقائي وأقربائي وزملائي لديه ميل وشوق أو تتبع للغناء السوداني.. فن ربما يكون مستساغًا فقط لأبناء جلدته.. لا يحمل تأشيرة خروج من مطار الخرطوم.. والفن الذي لا يغادر حدوده المحلية يظل مجرد سوق شعبي يرتاده ويزوره ويتسوق بضاعته المزجاة عشيرته الأقربون.. عندما سمعت الأمين يصرخ في وجه البسطاء الذين أرادوا اختطاف لحظة أنس وفرح من وعثاء الزمن، عرفت وتأكدت وبصمت بالعشرة أن تلك العقلية الفوقية واحدة من جملة أسباب جعلت من الفن السوداني متكدسًا في ممرات أم درمان وضواحيها، ولم يجرؤ على السفر إلى الرباط والكويت ونواكشوط..

المطبخ السوداني يقال عنه ما يقال عن المصري.. اكتفى بعشاقه من ذويه وأهاليه.. لكن الفن السوداني هو فقط ما يفرض سؤال أغلال جعلته أسيرًا لأمزجة السودانيين دون غيرهم.. حينما تستمع للأمين وصراخه في وجوه الناس تقول.. هذا هو السبب!!