|


صالح الخليف
بين الكذبة والمليون
2018-08-12
اللغة العربية عميقة ومتشعبة ومثيرة وغنية، ويمكن كذلك وصفها باللغة الذكية إن صح التعبير.. أظنها اللغة الوحيدة التي ليس فيها كلمتان متشابهتان أبدًا في المعنى.. فمثلاً كلمة جاء لا تتوافق مع أتى رغم أن كلاً منهما يؤدي نفس الغرض بالتمام والكمال..
وفي القرآن الكريم يقول تعالى في الآية العشرين من سورة القصص: “وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى”، وتفسير جاء في هذه الحالة يعني الحضور والقدوم من مكان بعيد.. ويقول تعالى على لسان موسى ـ عليه السلام ـ في الآية العاشرة من سورة طه: “لعلي آتيكم منها بقبس”، وأتى هنا تعني القدوم أيضاً لكن من مكان قريب.. وهكذا هو الحال في كل كلمتين نظنهما مترادفتين في لغتنا العظيمة.. فليس هناك أبداً أبداً كلمتان في بحر اللغة المتلاطم تشبهان أخواتهما وشقيقاتهما في كل الملامح، حتى إن كانتا توأمًا ومن رحم واحد.. أما اللغة المحكاة بين عامة الشعوب العربية فذاك بحر آخر تتوقف طويلاً على سواحله وشواطئه ضحكاً وتعجباً وبكاءً.. كأنك تبصر سراباً يحسبه الظمآن ماء.. فمثلاً يطلق المصريون بلهجتهم الدارجة على المليون جنيه لقب الأرنب، وكل المصريين يعرفون أن كلمة الأرنب إذا وردت في سياق الحديث عن الأموال فإنها تعني المليون، وبهذا تعتبر كلمة محببة للنفس.. وأين هذه النفس التي لا تحب المليون..! أما الكلمة نفسها أي “الأرنب” فتعني عند السعوديين الكذبة الكبيرة التي لا يمكن تصديقها.. وشتان شتان بين الأرنب السعودي والأرنب المصري.. أما لماذا يصف المصريون المليون بالأرنب ويصف السعوديون الأكاذيب بنفس الكلمة ونفس الاسم؛ فهذا دليل على عمق اللغة العربية وعظمتها وإنما من زاوية أخرى.. فاللهجة التي يحكيها الناس في بلدانهم ترضخ لحالة المزاج والمواقف ومناسبات عديدة التصقت وتمازجت وتلبست بين الكلمة الحقيقية في معناها وسط معجم اللغة، وبين حكايا وألسنة البشر.. فالأرنب ما هو إلا حيوان أليف يأكله المصريون بنهم وشغف وشهية مفتوحة، بعكس السعوديين الذين لا يضعون الأرنب ضمن قوائم الوجبات المفضلة، بل نادراً ما يجلس الأرنب بثقة على الموائد السعودية.. هذا التضاد والتباعد بين إلصاق الأرنب على ألسنة المصريين والسعوديين ما بين المليون والكذب حجة ودليل وبرهان على أن اللغة العربية لا مكان فيها لهذه التجاوزات الشعبية، التي لا يعرف لها سبب أو معنى أو مبرر.. بحثت عن سبب لكي يصف أهل أم الدنيا الأرنب بالمليون، ويسمي أهل الرياض وجدة والدمام وبقية المناطق “الكذبة” بالمليون، فلم أعثر على جواب واضح وقول مبين.. وأظنك يا صاحبي توافقني إلى حد بعيد بأن الأرنب المصري يستحق الحب والمودة والتقدير.. إنه يجعلك في عداد المليونيرات الصغار.. لقد جعلنا المصريون نحب “الأرنب”، حتى إن لم نكن نفضل أكله والتهامه..!!