|


صالح الخليف
كلمني ضروري
2018-08-15
لا شيء غيّر هذه الدنيا التي تعيشون تحت سمائها وفوق أراضيها كما فعلت جوالاتكم.. وحتى أكون أكثر عدلاً وإنصافاً، لن أعمم على الجوالات وأخصص فقط "الآيفون" الذي جاء به الأمريكان؛ ليكون صوتاً وصورة من عجائب العالم.. إنه أعجوبة أكثر مليون مرة من تمثال هنا أو حجر متراكم فوق بعضه بطريقة هندسية بارعة هناك..
وأكثر ما فعلته الجوالات في حياتنا هو قتلها وإلغاؤها الخصوصية.. ما عاد الإنسان يمكنه الهرب من ضغوطات الحياة والانتباذ إلى مكان قصي كما فعلت مريم ابنة عمران، عندما حملت بعيسى ـ عليه السلام ـ وجاءها المخاض وتمنت الموت، وأن تكون نسياً منسيا كما هو وارد في القصة الشهيرة.. إنه يقتحم خصوصياتك بكل ما أوتي من قوة واندفاع وقلة أدب وقلة ذوق وعدم احترام ساعات تسرقها من الزمن لترتاح..
إذا كنت نائماً أو على متن الطائرة أو داخل بيت الراحة ـ كما يسمي الشوام دورات المياه "أكرمكم الله" ـ وجاءك اتصال من صديق أو قريب أو زميل ووجد جهازك مغلقًا؛ فهذا لا يعفيك من مسؤولية الرد والاتصال والتجاوب في وقت لاحق؛ لأن كل الأجهزة تتمتع بخاصية "الموجود" الذي يجعل رقم المتصل يظهر على شاشتك حتى إن كنت تحت الأرض.. هناك بالطبع حالات ضيقة ونادرة قد تجد عذراً أمام نفسك، أما الآخرون فيظنونك رافضًا للتجاوب معهم على الأغلب.. وأعتقد أن أسوأ رسالة تستقبلها شاشة جوالك هي عبارة "كلمني ضروري"، وكلما وصلتني من أي كان أتوقف عندها طويلاً وأطرح على نفسي أسئلة يشوبها ويلفها ويحاصرها التكرار.. هل هذا الضروري هو خاص به أم أمر يتعلق بي أنا، أم أن حدثاً جللاً استجد وربطنا مع بعضنا كحال أغلال المحبوسين في أول ليلة وسط غياهب السجون.. ضروري بأي حجم أو مستوى أو كمية وأي مدى.. من الذي جعله فجأة يحدد أن الأمر ضروري ولا يحتمل التأجيل أو التأخير.. هل هو مثلاً ينشد مساعدة أو فزعة أو تعرض لموقف طارئ لن يحلل عقدته سواي في هذا الكون.. إنني لا أعترض أبداً على أي شيء من أسئلتي وظنوني، وليتنا نصل يوماً إلى خانة أولئك الذين تقضى على يدهم للناس حاجات، وهذه نعمة يسبغها المولى على من يشاء من عباده.. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.. اعتراضي فقط على كلمة "ضروري" واستخداماتها المتعددة، التي يسعى كاتبها من خلالها إلى إضافة أهمية وجسامة ليس لها حدود.. يريد أن يقول لك بطريقة مقززة: "يجب عليك الرد الآن وفوراً".. وعندما ترد غالباً لا تجد لهذا الضروري مكاناً وموقعاً لا قصيًّا ولا قريباً.. إنما هي عملية استفزازية ليس إلا..!!