|


أحمد الحامد⁩
عندما تغادر الأماكن
2018-08-26
يمر في ذاكرتي كثيراً هذه الأيام، أتذكر ملامحه وأشاهده فيما تبقى من ذكريات الأمكنة، ينام بين إخوته في غرفة واحدة وغطاء واحد، ينام متعباً من اللعب، وكثيراً ما امتعض من إلتصاق "العلكة" بشعره عندما يستفيق من نومه.

ذاك هو يلعب الكرة ويشاهد برامج الأطفال وعائدا من المدرسة، يرمي شنطة كتبه ويلعب بالكرة في فناء بيتهم، يدخل المطبخ يشاهد والدته تحضر الغداء.. يركض نحو والده العائد من العمل، كم كان والداه صغيرين أيضاً.

ذاك هو يغني ما حفظه من أغان الراديو.. ويسهر حتى التاسعة مساءً، أستمع إلى صوته ينادي على أخيه وهو على سطح بيتهم، يحرك "إيريل" التلفزيون.. يحاولان التقاط صورة صافية.. بعد.. بعد.. ارجع.. خلاص .. خلااااص.. ارجع.

ذاك هو يفتح يده في الصباح الباكر.. تتساقط عليها قطعة خشبية صلبة.. يحضن ألمه كلما هوت.. يحرك يده محاولاً إنعاشها بالهواء حتى لا تختنق وتموت.. لا رحمة بقلب هذا المعلم العابس.. افتح ولاااا، لكنه كان ينتقم من معلمه ومن المدرسة كلها عندما يمزق دفاتره وينثر قصاصات الأوراق في الهواء بعد إنتهاء اليوم الأخير من السنة الدراسية..،
ذاك هو يلعب بدراجته الهوائية التي زينها بالأشرطة اللاصقة.. يحاول رفع عجلتها الأمامية تارة، وتارة يرفع يديه من مقودها.. ويصفق.. لمن؟ لا يعلم..

أجمل ما في ذلك الصبي إنه لم يكن يعلم، الصبي الذي تمنى أن يكبر سريعاً.. حتى يصبح لاعب كرة يذكر المعلق اسمه ويلقي عليه أفضل الألقاب.. أن يكبر ليقود السيارة.. أن يكبر حتى لا يذهب للمدرسة.. أن يكبر حتى يحقق كل خيالاته، لم يعلم أن ذلك على حساب أحبته.. كلما كبر.. كلما صغر عمرهم..، هل لنا أن نستعيد ذاك الصبي لن تعيد له الأماكن تلك الأيام وإن عاد إليها، بعض الأماكن لا تبقى.. تغادر عندما تتغير، ذلك الصبي الصغير لم يكبر.. يبقى كامناً في الجسد الذي تضخم.. يظهر في أصدق لحظات الإنسان..

وفي براءة عفويته دون إرادة منه ودون سابق موعد، أسعدهم هو من صاحبه دائماً وأخرجه إلى الشمس دون خوف أو خجل، ذاك الصبي الصغير يمر في ذاكرتي كثيراً هذه الأيام، يطوف بي في بقايا ذكريات الأماكن وكأنه يجددها.. يأخذني نحو من فقدتهم وإلى من اشتقت إليه.