|


صالح الخليف
كلمة قالها ولم أنسها
2018-10-04
تسكن ذاكرتي أشياء كثيرة من أيام الجامعة والدراسة ووجوه المحاضرين، وأصحابي الذين حاولت معهم النهل من ذلك الصرح التعليمي العملاق.. كنت طالبًا وبكل فخر من بين آلاف تركت لهم جامعة الملك سعود مقعداً في زحمة الكراسي المتناثرة داخل قاعاتها الفسيحة.. أشياء كثيرة أتذكرها، وأشياء أكثر أتمنى أن تطويها عاصفة النسيان..
الدكتور محمد بن سليمان الأحمد، كان أحد أبرز أساتذة الصحافة النظرية إن صح التعبير.. محاضراته كانت بالنسبة لي تشبه الأفلام الوثائقية.. يتكلم بهدوء ووقار ولغة أبوية حانية.. ظلت محاضراته إضاءة ساطعة لمعرفة وجه خفي عن الصحافة الدولية.. أتذكر مواقف كثيرة في علاقتي كطالب مع أستاذه، لكن لا يزال قوله متحسرًا ومتأسيًا على حال بعض الطلاب يدور في خيالي.. قال في إحدى محاضراته: “للأسف في السنة الأخيرة في قسم الصحافة طالب لا يفرق بين الخبر والمقال”.. بالنسبة لي كنت أعي وأرى وأعرف وألمس هذه الحقيقة الجارحة، لولا أن أسباب عدة تمنعني من التصريح بها.. كنت الوحيد بين زملائي الذي يعمل صحفياً ويدرس في نفس الوقت.. هذا كان يتيح لي معرفة الصحافة وخفاياها.. كان هناك تضاد كبير بين الدراسة والتنظير وبين العمل والتطبيق.. لا تمنحك الجامعة مساحة كبيرة في ممارسة الصحافة بمفهومها وهويتها الحقيقية.. بعد أن ودعت الجامعة أيقنت أن الصحافة مهنة لا تدرس ولا تصلح للتعلم أو التعليم.. أظنها مثل الشعر والرسم والنحت والغناء والتلحين.. صحيح أن الطابع الأكاديمي يضيف وعياً ناقصاً قد تكون بحاجته دون أن تشعر، لولا أن الذين لم يذهبوا إلى مقاعد الجامعة ودراستها ومناهجها وسجلوا نجاحات باهرة في المهنة، يحملون دليلاً بائناً على صحة كلامي وأقوالي.. العذر الذي يحمله الجامعيون أن الدراسة ليس بالضرورة أن تكون مدخلاً للتطبيق، وإنما هي أحياناً كثيرة تضع الأسس والقواعد إضافة إلى توسيع المدارك الضيقة.. كلمة الدكتور الأحمد أو رأيه المتألم ليس سوى دائرة المنتصف التي يمكن من خلالها لأقسام الصحافة في الجامعات الانطلاق إلى حيث اتجاهات أخرى، حتى تصبح الدراسة الجامعية أهم، أو في درجة الأهمية من الممارسة العملية قبل اقتحام غمار هذه المهنة، التي ظل أهلها يسمونها مجازاً بمهنة المتاعب؛ إيماناً بمتطلبات لا تتوقف ومستجدات وتطورات تجعل أصحابها يعيشون في حالة طوارئ على مدار العام..
لا يفرق الدارسون في الجامعة بين المقال والخبر، وهذا ما جعل الدكتور الأحمد يقولها بصوت يملؤه الانكسار والتأسي والألم، وجعلني أطبع هذا الموقف في خيالي طوال أكثر من خمسة عشر عامًا.. ما أسوأ بعض الذكريات..!!