|


أحمد الحامد⁩
زوايا ذهبية
2019-09-27
في منتصف التسعينيات، كنت قد أدمنت على شراء صحيفة الشرق الأوسط أو الحياة، أشتري الصحيفة من الكشك الصغير المقابل لموقف الباص في بداية الطريق للبارك لين للقادم من شارع أوكسفورد، أصعد الباص رقم 137 وأغوص في الكلمات، هذا السبب الذي جعلني لا أعرف تفاصيل تلك الشوارع رغم مروري بها لسنوات طويلة، لأنني لم أكن أنظر إليها، بل إلى تلك الزوايا في الصحيفة التي أصبحت قراءتها تشبه عادة المدخن على سحب دخان سيجارته الأولى.
مقالات سمير عطاالله السلسة والمليئة بالحكايا عن أسماء شهيرة يعرفها والتقى بها وكأنه قد تعرف على نصف سكان هذا العالم، إما من خلال معرفة شخصية أو من قراءته عنها، صور لبنان التي التقطها له قبل أن تطلق أول رصاصة في الحرب التي فرقت البلاد والعباد، ومقالات خالد القشطيني الساخرة المضحكة المبكية، عن ذكرياته في العراق ما قبل الجمهوريات أو كما يحلو له تسمية العهد الملكي بـ”أيام الخير”، وقصص زملائه العراقيين في لندن الذين دكتهم مدافع الغربة وابتلعهم حوت اسمه الزمن، عيون وآذان جهاد الخازن وكل كتاباته عما يفعله الصهاينة بالفلسطينيين ومحاولاته تسليط الضوء عما فعله العالم الغربي والأمريكي من تخاذل طويل تجاه قضية شعب تاه في المنافي، وعاش من بقي منه على أرضه في سجن يضيق مع مرور السنوات، أكثر من خمسة وعشرين عاماً وأنا أقرأ وأتابع ما يكتبونه في زواياهم الشهيرة الممتعة، رافقت حماسهم وأمانيهم طوال هذه السنوات، حتى بدأت أشعر بتلك الكلمات التي تحمل بداخلها كمية من الألم واليأس تجاه واقع من جزء عربي لم يتغير، سنوات طويلة اتحدت خلالها دول أوروبا وظهرت دول جديدة على سطح الأرض، وصدّرت لنا الولايات المتحدة الإنترنت عبر أسلاك تمتد آلاف الأميال في عمق البحر وعبر الأقمار الصناعية، تغير العالم ووجه الاقتصاد ومفاهيم التجارة، واختفت صناعات وظهرت أخرى، لا لبنان سمير عطاالله تعافى من علّته، ولا عادت أيام الخير لعراق القشطيني، وحلت صحيفة الحياة الورقية ولم تحل القضية التي يكتب عنها الخازن، قد لا تكون هناك حلول قريبة لكل ما أشاروا إليه واشتكوا منه عبر مئات الآلاف من الكلمات، قد تأتي الحلول في زمان غير زماننا، لكن استمرارهم الطويل في الكتابة كان له سحره العجيب وفوائد عظيمة، أراد كل منهم أن يتخذ منبراً، فأصبحت منابرهم مع الزمن مدارس أدبية للتعلم والفائدة والمتعة.