أيام «فورمولا» الحزينة.. مأساة سينا.. و32 وفاة
عندما أبصرت بطولة «فورمولا 1» العالمية للسيارات النور عام 1950، كانت العقلية السائدة المحيطة بالسباق تتقبل وقوع المخاطر والإصابات وحتى الموت، بوصف ذلك من المجازفات المقبولة في عملية التنافس.
وانصبّ التركيز في عقدي الخمسينيات والستينيات على تطوير السيارات ميكانيكيًا، دون أي اعتبارٍ للسلامة، قبل أن تبدأ خطط الأمان في الظهور بعد ذلك، بوتيرة بطيئة اقترنت ببطء التطور التكنولوجي آنذاك.
وحاليًا، أصبحت عوامل السلامة والأمان على رأس اهتمامات القيّمين على «فورمولا 1». ووصلت القوانين المتعلقة بسلامة السائقين إلى مرحلة متقدمة للغاية، من نظام «HANS» الذي طُبِّق عام 2003 لحماية رأس وعنق السائق، وصولاً إلى جهاز «HALO» الذي يضع أقصى درجات الحماية حول مقصورة القيادة وأصبح إلزاميًا منذ 2018، وغيرهما الكثير من الأنظمة والتفاصيل الدقيقة التي أبعدت عددًا من السائقين عن سيناريوهات مأساوية بعد حوادث قاسية، مِن آخرها حادث الفرنسي رومان جروجان في البحرين عام 2020، إذ تحطّمت سيارته إلى قسمين، واندلع حريق هائل فيها، لكنه خرج منها دون مساعدة بعد 28 ثانية فقط، مع حروق من الدرجات الطفيفة.
لكن قبل التطور الهائل في عوامل الأمان كانت حلبات «فورمولا 1» مسرحًا للمحطة الأخيرة في حياة 32 سائقًا فارقوا الحياة، خلال السباق الرئيس، أو في التجارب الحرة والرسمية.
ووقعت 12 من حالات الوفاة هذه في الخمسينيات، و8 في الستينيات، ومثلها في السبعينيات، وحالتان في الثمانينيات، واثنتان أيضًا في التسعينيات، وحالة وحيدة في الألفية الجديدة، إذ كان الفرنسي جول بيانكي آخر من ذهب ضحية لحوادث البطولة العالمية، قبل 10 أعوام.
ويُعدّ البرازيلي آيرتون سينا الاسم الأبرز الذي عرف هذا المصير على حلبات «فورمولا 1»، فقد تُوّج ببطولة العالم 3 مرات خلال أعوامه الـ 10 في هذه الرياضة، وحصد 41 جائزة كبرى، وصعد إلى منصة 80 سباقًا من أصل 161 خاضها، قبل أن يفارق الحياة في ما يصفه الكثيرون باليوم الأكثر إيلامًا في تاريخ البطولة.
ففي أسبوع جائزة سان مارينو الكبرى عام 1994، تعرّض البرازيلي روبنز باريكيللو لحادث خطير خلال يوم التجارب، وأدّى الحادث إلى كسور في أنفه وكتفه، وكان آيرتون سينا أول من زاره من السائقين للاطمئنان عليه، قبل أن يفارق النمساوي رولاند راتزنبيرجر الحياة في يوم التصفيات، بعد اصطدامه بجدار خرساني عند منعطف فيلنوف أثناء قيادته بسرعة 310 كيلومترات في الساعة.
وزار سينا المركز الطبي للحلبة بعد زيارته مكان الحادث، وأبلغه سيد واتكينز، رئيس الجهاز الطبي، بأنّ عليه الاعتزال وإمضاء وقته في تأدية هواية الصيد البحري، التي كانت مشتركة بينهما. وفي صباح يوم السباق، أمضى سينا وقتًا مع ألان بروست، زميله السابق وغريمه السابق أيضًا، للحديث عن إعادة إطلاق رابطة السائقين من أجل تعزيز عوامل الأمان والسلامة، وكان من المفترض أن يكون سينا رئيسًا للرابطة.
وفي اللفّة السابعة، وأثناء تصدره السباق، كان سينا يقود بسرعة 307 كيلومترات في الساعة عندما خرجت سيارته عن مسار الحلبة عند منعطف تامبوريلو، واستمرت في خط مباشر دون انعطاف، فاصطدمت بجدار خرساني بسرعة 211 كيلومترًا في الساعة، وتم سحبه من السيارة بعدها بدقيقتيْن، وحصل على دعم الأطباء ومن بينهم واتكينز قرب السيارة، وتبيّن أن دقات قلبه ضعيفة، وأنه فقد الكثير من الدم، فتمّ نقله إلى المستشفى، لكن واتكينز قال لاحقاً أنّه كان يعلم سلفاً أن سينا لن ينجو.
تعرّض سينا لكسور في الجمجمة وإصابة في الدماغ وقطع في الشريان الصدغي السطحي، بعد تحطم الإطار الأيمن وجهاز تعليقه ودخولهما إلى مقصورة القيادة، وبعد اختراق قطعة معدنية من جهاز التعليق الخوذة فوق عينه اليمنى. ورأى الأطباء أن أي واحدة من هذه الإصابات الـ 3 كانت كفيلة بأن تكون إصابة قاتلة. وتمّ سحب علم النمسا من سيارة سينا، إذ كان يريد تقديم التحية لراتزنبيرجر، السائق الذي فارق الحياة في اليوم السابق، بعد السباق الرئيسي
وأظهرت عدة دراسات أن سبب الحادث كان فشلًا في عمود توجيه السيارة بسبب تعديل طارئ أُجرِي عليه قبل السباق، إذ قال الألماني مايكل شوماخر، الذي كان خلف سينا مباشرةً أثناء الحادث، إنه لاحظ أن سيارة سينا لم تكن على ما يرام يوم السباق، فيما ذهب البعض ليعد أن سينا ارتكب خطأ قياديًا. وما زال هناك خلاف بين الاتحاد الدولي للسيارات والسلطات الإيطالية حول توقيت الوفاة، إذ هناك عدة تأكيدات أن سينا كان حيًا عندما غادر الحلبة بالطائرة المروحية، فيما تؤكد المستشفى أنها استلمه ميتًا.
وتعامل البرازيليون مع رحيل سينا في ما يشبه المأساة الوطنية، وأعلنت الحكومة البرازيلية عن الحداد العام مدة 3 أيام، وتم نقل البث المباشر لجنازته على التلفزيون البرازيلي، ويُقدّر عدد من اصطفّوا لوداعه في شوارع مدينة ساو باولو، مسقط رأسه، بنحو 3 ملايين شخص.