|


فهد عافت
الذكرى: طحين الوقت!
2018-10-31
ـ النسيان: خيانة آمِنة. الذكرى: وفاء مُرْبِك!.
ـ النسيان لا يخدش الحقيقة، لا يراوغ الواقع، ولا يتحايل على النفس والوقت والشيء!. الذكرى مُخاتِلَة، وكلّما كانت أكثر صدقًا كانت أكذب!.
وكلّما ترتّبت أسْلَمَت الدنيا إلى الفوضى!. كلمة الفوضى هنا ليست دقيقة تمامًا، وهذه فوضى جديدة!، الأصحّ أنّه لا يمكن لها أنْ تبدو مرتّبَة دون أنْ تُربك الزمان والمكان والمادة والفكرة!، ذلك أننا وما أن نتذكّر “أمر، شيء، حادثة، وجه”، إلّا ويكون هنا وليس هنا في اللحظة نفسها، هناك وليس هناك أيضًا!.
ـ الذكرى رحيل مُقيم وإقامة راحلة!.
ـ نتذكر...، العقل والوجدان والمشاعر وكل ما فينا، وكل ما حولنا، يسحب المشهد من جديد، يُقيمه ويُديمه، ثم لا يكون وفيًّا له أبدًا، والقصد أنه لا يكون وفيًّا لحقيقته!. وجه الحبيب يصير أجمل، وحديثه يصير أطيب، والأشياء التي تم استرجاعها عبر الذكرى تبدو زاهية ومغسولة بعطر!.
ـ جرِّبْ أن تتذكّر الآن وجه حبيبٍ صار فيما بعد عدوًّا، أو العكس، اختر غائبًا، راحلًا، أو لم تعد لك به صلة وأخباره منقطعة عنك منذ سنين. استدرج مشهدًا أو حكاية أو ملامح، لن تجدها كما هي في حالتها الأولى، وجدانك سيغيّر السيناريو والحوار والديكور والتصوير والموسيقى التصويرية والإخراج!. إلى ما هو أعذب أو مُعذَّب لا يهم، المهم أنّ ما تراه الآن لم يكن هو بالضبط ما رأيته سابقًا، والعجيب المُربِك الفوضيّ أنه هو،.. هو تمامًا!.
ـ جرِّب، وهذه أسهل، أنْ تنظر لصورة فوتغرافية قديمة تجمعك بأصدقاء “غالبًا ما تكون هناك صورة ما لزملاء الدراسة”!، راقب الملامح، واترك الذكرى تنسحب على الوجوه، وعندما تنتبه وتخرج من الذكرى، اسأل نفسك: هل هذه هي مشاعري حقًا تجاههم زمن التقاط الصورة؟!. أو ببساطة لها نكهة المزاح: هل قدرتَ حقًا على ألا أشعر بنوع من الشفقة والرثاء على زميل الدراسة النحيف والذي هو اليوم سمين ومتكرِّش؟!. أو ألَم يمرّ في بالي لحظة التذكر كيف صار ذلك الضحوك متجهمًا إلى هذا الحد الذي وصل إليه؟!.
ـ أسئلتنا الخفيّة هذه، الخفيّة حتى عنّا، تُغيّر المشهدين: القديم والجديد، وتُنتج صورة ثالثة، ليست زائفة ولا أصلية، موجودة وغير موجودة!. تتمرجح بين “ذلك” و”هذا”، لا هي ذلك ولا هي هذا!.
ـ لي، من قصيدة الأبواب:
“إذا ما اشتقتْ..
في الغُرْبَهْ....
قل الذكرى طحين الوقتْ..
واخبز من تبي قُرْبَهْ”!