|


أحمد الحامد⁩
الباص رقم 137
2018-11-26
الباص الإنجليزي الأحمر رقم 137 هو من بقي في ذاكرتي من كل وسائل المواصلات الإنجليزية، عاصرته عبر جيلين من طرازاته، الطراز القديم جداً ذو الماكينة المتدلية من بطنه الكبيرة، وطرازه الأحدث الذي راعى الرشاقة في تصميمه فعمل مصممه على إخفاء "الكرش"، الذي أيضاً يعتبر قديماً جداً.
ولم يعد يستخدم اليوم، حديثي هذا عن بداية التسعينيات وأول الألفية الثانية، اعتدت أن أستقله من محطة ماربل آرش، دافئاً حنوناً مع الركاب، خصوصاً للشباب الذين يعتقدون أن لا حاجة لارتداء أكثر من قميص واحد في الشتاء البريطاني المخادع، حيث تستطيع أن تشاهد الشمس مشرقة وأنت تنظر من شباك شقتك، لكنك لا تستطيع أن تعرف درجة البرودة على الأرض، غالباً ما يقيّم الشباب الأمور بسرعة، وذلك مما يسمى تهور الشباب في وصف أفضل وأرحم من مفردة حماقة، بمجرد أن تمشي لعدة دقائق حتى تعرف فداحة قرارك؛ فتدعو الله أن يرزقك الباص بأقرب فرصة ممكنة حتى يحنو عليك بدفئه، في هذا الباص تعرفت على كتاب المقالات في صحيفة الشرق الأوسط والحياة، أدمنت الصعود مع جريدة، أشتريها من الكشك الصغير مقابل المحطة في ماربل أرش، وأنا ذاهب للإذاعة، كان الهدوء بداخله بيئة مناسبة للقراءة وكأنه هدوء مكتبة، أكاد أقول إن الجميع كان يقرأ، نسبة الأجانب عليه قليلة ومعظم ركابه من الإنجليز ببدلهم الرسمية وشنطهم التي غالباً ما يكون بداخلها طعامهم وفاكهتهم، الإنجليز ليسوا بخلاء نهائياً، لكنهم اقتصاديون ويعرفون أن الأرقام الصغيرة تجمع الأرقام الكبيرة، قرأت في باص 137 بعض الكتب، والشيقة منها ما كان يجعلني لا أنتبه لمحطة نزولي، فيمضي بي الباص إلى أن أنتبه ثم أنزل في أقرب محطة، اليوم كانت الشمس مشرقة، لكنني لم أعد في سن الشباب المتعارف عليه، لست في العشرينيات ولا الثلاثينيات، لبست كل ما أستطيع أن ألبسه، خرجت وأنا أتعامل مع البرد كصديق، وقفت عند موقف الباص رقم 137، كان كشك الجرائد قد تحول إلى بيع لوازم الهواتف، ركبت الباص الذي لم يتغير شكله فقط، بل حتى ركابه أيضاً، العرب هم من يبنون بيئتهم أينما ذهبوا، لا دخل للمكان بذلك، ذهبت أجواء المكتبة وتحول الهدوء إلى ضحكات مستهترة، وعدة أغان تستمع إليها في وقت واحد، كان أعلاها صوتاً: تعال تعال تعال. تعال أشبعك دلال. تعال تعال تعال.