|


فهد عافت
قدرات خارقة!
2019-03-24
لماذا نتذكّر موتانا أكثر من الأحياء الذين بَعُدَتْ بيننا وبينهم المسافة؟!. إنْ تحدّثت عن نفسي فالسؤال يتضمّن حقيقة تستأهل التفكير في إجابة.
ـ ولتوريطكم معي، أقرّب الصورة، أظنّها إنْ قَرُبَتْ وَضَحَتْ، وإنْ وضَحَتْ أخافَتْ!، وإنْ أخَافَتْ أجبَرتْ على التفكير فيها!، وإنْ فكّرنا فيها وتأملناها وأعدنا النظر، هانَتْ، ولَطُفَتْ، وتلاشى من مُوحشاتها ومحزناتها الكثير!.
ـ الدنيا تفرّق، الدروب تتباعد، يصير لجيراننا جيران آخرون، ولأصدقاء طفولتنا أصدقاء غيرنا، ويغيّر زملاء عملنا أعمالهم فيتناولون فطورهم مع زملاء آخرين، وعدد من أقاربنا ينتقلون إلى مدن أخرى بعيدة، وربما بلدان أخرى للعمل وطلب الرزق، وما يجري على كل هؤلاء يجري علينا، يصير لنا مثلهم جيران وأصدقاء وزملاء عمل، وحتى أقارب جدد!.
ـ تصير اللقاءات بقدماء الأحبة قليلة، في مناسبات رسميّة، أو مصادفات عابرة أو في ظروف خاصة، يمضون ونمضي، كل له حياته، مسؤولياته ومشغوليّاته. نتذكّرهم، ويمرّون في بالنا بين وقت وآخر، نجري مكالمة هاتفية لتهدئة الحنين أو نبتسم قليلًا في أنفسنا ثم ندخلهم في نسيان جديد ونكمل سيرنا، متقبّلين في داخلنا أنهم يفعلون الشيء ذاته، وأنّ هذه هي الحياة!.
ـ ثم وما إن نعرف برحيل أحدهم عن هذه الدنيا، حتى تبدأ صورة جديدة بالتشكّل أكثر حميميّة وأقرب وصالًا!. تستحضرهم الذاكرة أكثر من ذي قبل، ونعرف كم كنّا نحبّهم!. وكم كانت مبرراتهم مقنعة حين فعلوا كل ما سبق لهم أن فعلوه!. مقنعة لدرجة أنهم محقّين فعلًا حين لم يقولوها لنا!.
ـ نحزن على فراقهم، ثم شيئًا فشيئًا يخفت الحزن، وتتجلّى صورة أكثر بهاءً مما كنا نظن، يصيرون أجمل، ويتواصلون معنا بحميميّة أكثر دفئًا وحتّى أكثر طرافةً!.
ـ حنيننا وشوقنا إليهم يأخذ شكلًا أطهر، يُنزع منه وعنه العتاب والملام!. يطرقون باب الذاكرة، أو يدخلون دون استئذان، فلا نعاتبهم على غيابهم عن الذاكرة أيامًا وإن لمنا لا نلوم إلا أنفسنا!.
ـ الموت يُصيّرهم أكثر كرمًا!. يمنح واحدهم القدرة على الوجود في أكثر من مكان في وقت واحد!. وبذلك لا يشغلهم حبيب عن حبيب!. وفيما لو كنّا عشرة أصدقاء متباعدين لراحل، فإن كل واحدٍ منّا يقدر في ذاكرته ووجدانه على دعوته إلى قهوة وحديث، ولسوف يتمكّن من تلبية كل هذه الدعوات في وقت واحد ولسوف يوجد في مدن وبلدان متفرّقة كثيرة في اللحظة ذاتها!.
ـ لا أحد يقدر على الاستفراد بأحدٍ قد توفّاه الله!. الموت يفيض بالميّت، يُكثره، ويمنحه قدرات خارقة!. الموت وفرة حياة!.