|


فهد عافت
السهل الممتنع حقًّا!
2019-07-08
أمس!، أردت أن أحكي لكم عن قصص مارك توين، بدأت بـ: "يحكي مارك توين قصصه بتواضع أبويّ دافئ ورقيق. ولأنه ماهر في صنعته فإنّ الرّشاقة لا تفارق كلماته، لا الرّشاقة ولا خفّة الظِّل!."، وفجأة انقلب الموضوع إلى موضوع آخر فكانت مقالة: "محاكمة النار ومحاكمة الماء"!.
ـ اسمحوا لي أن أكمل اليوم ما بدأته عن مارك توين، أحد أقرب كتّاب القصة إلى شكل الأب، ليس أي أب، بل الأب الذي حفظ حكايات جدّته وهَدْهَدَنا بها!.
ـ يمتلك من البساطة، بل من السهولة والعاديّة، ما لا يمكن معه لكثير من الكتّاب غير تغطية وجوههم بأيديهم خجلًا من غطرستهم في التهويم والتعويم!.
ـ إنه أحد العباقرة، الذين لا يمكن لوجودهم إلا أن يكون ندرة الندرة، متى ما تعلّق الأمر بالسهولة والمباشرة!.
ـ مكمن عبقريته ونبوغه والسرّ المقدّس في دهائه يظل في قدرته على تناول هذا السهل والعادي والمباشر وصياغته بطريقة سهلة وعاديّة ومباشرة!، حتى يظن أي قارئ له أن بإمكانه فيما لو جرّب، كتابة ما كتب، بل كتابة ما هو أفضل، وتقريبًا: كلّ من تقدّم خطوة في هذا الاتّجاه هَلَك!.
ـ السهل المُيسَّر الذي يقدمه لك مارك توين هو أن أي حكاية، ومهما بدت ساذجة وغير ذات مغزى، يُمكن لها أن تُحكى، وأن تكون عظيمة الجاذبيّة. المُمتنِع صعب المنال: روح الأسلوب!.
ـ قصصه غنيّة بفقرها إلى ما نظنه لوهلة أسلوبًا أفضل!. عبقريته تزيد في طغيانها حين تتكشف لنا كم هي الحكمة أو العبرة المراد إيصالها بسيطة وواضحة!.
ـ أمّا عن حسّ الفكاهة فيما يقول، فينتشر مثل عطر. له من صفة العطر تحديدًا: بريق الشغب دون تجريح أو إساءة!. مع ملاحظة أنه لا يمكن الحصول على شهادة ضمان للوصف الأخير في الجملة السابقة!.
ـ واحدة من أشهر قواعد الفن القصصي، ومن أهم وصاياه، ضرورة أن يتجنّب الكاتب اللجوء إلى الحظ والصدفة في سحب الأحداث إلى نهايتها. وفي هذا الشأن يمكن القول إنه ما من كاتب كبير جعّد ورقة هذه الوصيّة ورماها في سلّة المهملات كما فعل مارك توين!.
ـ الغريب أنه لم يخسر شيئًا، وأنه كسب الكثير، الكثير إلى الحد الذي يسمح له بالخلود، من وراء فعله الطائش المتهوّر هذا!. في كتاب واحد قرأتُ له تسع قصص، واحدة فقط غرّدتْ خارج السّرب. سِرْبُ الثمانية: أحسن شيء في هذه الدنيا هو أن يُولد الإنسان حَسَن الحظ!.
ـ إنه يتجه إلى طفولتك، يناغيها، وليفعل ذلك بأقصى قدر من التفوّق فإنه يتجه إلى طفولته أولًا، يناغيها، وبأثرٍ من هذا يصنع المراجيح!.
ـ وهل هناك بساطة طفولية أكثر من أنه وفي واحدة من قصصه، راح يحكي وراحت الأمور تتعقّد، ويصعب على شخوصها الخروج منها، فما كان منه إلا أن صعد إلى أعلى عقدة، ثم كتب:
ـ "لن يجد القارئ بقيّة هذه القصّة، لا في هذه الأيام ولا في المستقبل!. الحقيقة أنني وضعت البطل، أو البطلة، في موقف حرج جدًّا، إلى حد أنني لا أستطيع أن أجد له، أو لها، مخرجًا منه!. لقد ظننتُ أنه من السهل حل هذه المشكلة البسيطة، ولكن اتضح أنها ليست بسيطة كما كانت تبدو"!.

ـ قفلة:
ذكرتُ قبل قليل أنني قرأت تسع قصص لمارك توين في كتاب واحد. اسم الكتاب: "10 قصص لمارك توين"!. ترجمة فرج جبران. فلماذا لم أقرأ القصة العاشرة؟! الجواب حزين وطريف مثل قصص مارك توين نفسه، لكنها هذه المرة من بطولة الأقدار والمترجم: مات فرج جبران قبل أن يترجمها!.