|


أحمد الحامد⁩
قطار ساوث ويست
2019-08-17
لدي مئات التذاكر التي اشتريتها للصعود على قطار الساوث ويست، في كل مرة أعود بها إلى البيت كنت أضع التذكرة مع كل ما في جيبي في الدرج، هكذا تجمعت لدي تذاكر القطار، تشكلت بيني وبينه علاقة لا أستطيع أن أصف تحديداً مستوى دفئها أو عاطفتها أو حتى قسوتها، لكنّ شعوراً ما بيني وبين هذا القطار الذي أعرف عنه الكثير كما يعرف هو أيضاً عني ما لم أذكره لأحد يوماً ما.
قد تكون بداية هذه العلاقة بدأت بالمواساة، لا أذكر جيداً هل هو من بدأ بمواساتي وأنا أسترجع بعض أيام الغربة المستمرة، أم أنا من بادر بمواساته بعد أن ترك بعض المسافرين أماكنهم وهي متسخة مليئة بالأكياس والعلب المعدنية دون إبداء أي احترام أو شعور بالتقدير تجاهه، يحمل هذا القطار قلباً طيباً، فكم من مرة توقف منتظراً صعودي رغم تأخري عدة ثوان عن موعد مغادرته، كنت أدخل إليه وأنفاسي تلهث من شدة الركض للحاق به، أجلس على الكرسي وأشعر بالحرج الذي سببته له، وأصمت عدة دقائق قبل أن أبدأ بالحديث معه، إلا تلك المرة التي لم ينتظرني بها ثانية واحدة.. كان ذلك قبل ثلاثة أشهر تقريباً.. غادر بسرعة دون أن ينظر إليّ وأنا أركض نحوه مثل كل مرة، منذ ثلاث سنوات تعرفت عليه دون أن أحفظ اسمه، رغم تكرار بائعي التذاكر اسمه أمامي عدة مرات وأنا أشتري التذكرة.. ساوث ويست.. واحد وعشرون جنيهاً.. أستطيع أن أقول إن ظهور العاطفة الجياشة بيننا بدأت فعلياً في تلك الرحلة المتأخرة المتجهة من لندن ووترلو إلى بورتسموث، كانت دموعي تنهمر وأنا أتذكر والدي.. كنت قد أجبت على سؤال طرحته نفسي علي: هل كانت أسباب رحيلك تستحق ضياع السنوات التي كنت تستطيع أن تقضيها بجانبه وتعيشها معه؟ أجبت لا.. وبكيت بصمت.. حتى جاءني صوت القطار هادئاً يملؤه الدفء.. قال برقة ووداعة: أعرف ما تشعر به، أشعر به دائماً، تذكر بأنك لا تختار أقدارك، أنت لم تقرر شيئاً بقدر ما كنت مدفوعاً رغماً عنك، لا بأس إن بكيت يا صديقي على ألا تطيل البكاء، هذا ما تعلمته منذ أن بدأت العمل كقطار، ألا أطيل البكاء حتى لا أضعف، في كل مرة أودع بها قطاراً للأبد تحت مسميات التحديث.. وأرى مكانه فارغاً في محطة القطارات الرئيسة.. أجد دموعي تنهمر وأنا أتنقل من محطة إلى أخرى.. الهواء وحده هو من يجفف دموعي يا صديقي، هكذا هو الحال كل عدة أشهر.. هل تذكر تلك المرة التي لم أنتظرك بها.. كنت أريد أن أنطلق بسرعة.. حتى لا ترى دموعي.