|


تركي السهلي
الأبيض الطبشورة
2019-10-07
أشعر بأن القطار السريع لا يعنيني.. هو يعبر كل المحطات وأنا الواقف بلا حراك.. الدواليب الدائرة ليست لي..لا شيء يُميّز إلّا ظاهر ولا نور يسطع من بعيد إلّا ولديه وميضه الخاص.. أنا أعاني من الوجع الصامت المؤلم.. تسبقني كل الممرات وأنا الواقف بين المسافات بلا دليل.. لا أدري ماذا أريد بالضبط.. لكنني كُتلة من الغياب غير المنتهي والنقطة غير المحددة على وجه الخارطة..
ما أصعب الضياع على رجل مثلي ليس له رصيد في عمره سوى ما اكتنزه من معرفة ومن تجربة ظنّ أنهما خزنه الاستراتيجي.. كم أتمنى أن أعود إلى تلك البلاهة والفم المفتوح بلا جُمل.. إلى الأعين السريعة النظرات.. إلى الوجه المغسول بماء البئر وشطوب الشتاء.. إلى ذلك الصغير القافز على كل ألعاب الأقران والمُلاعِب للعبته الخاصة.. إلى ذلك المُتشكّل من اللُعاب والطين. ليتني أعود إلى ذلك الصبي المُتعلق بلوحة المدرسة وثوب الصباح وأقلام المعلمين ورائحة خبز القرويين المنبعثة من أفران النخيل.. آه لو كنت زيّاً ثابت الألوان لا تداخل فيه ولا تمازج.. ليتني الأبيض كطبشورة.. ليتني أصابعٌ تملك الممحاة ولا تمتلك تفاصيل الخط.. ليتني الصفحة المكتوبة دون أن تكون في فهرس.
الأعوام تمرُّ على العابر المؤثر كما لو الصخرة.. لا أثر منها سوى الثبات ولا حراك لها غير الريح البطيئة ولا طابع لها سوى النقش.. الصمت لعنة الشعراء وأذى الأشقياء وعذاب الرُواة الأبديّ. القصص لا تموت وأنت في حضرة ذاكرة.. الرحلة لا تُقطع وأنت في زاوية الماضي.. الحياة لن تمضي بك وأنت مسمار على خشب الأيام.. ليس هناك أقسى على الوجوه من مرآة تلازمها في المراحل ولا تحتفظ لها بتفاصيل خاصة.. ليس هناك أكثر تناقضاً من الجلد.. يدوس الدابغ بأقدامه الفاخر منها والأثرياء يباهون بارتدائه في مناسباتهم الباذخة.. التائه لا ينفعه الصبر ولا الأحلام ولا السراب الكاذب.. ليتني حينما أُفتّش عن ذاتي أجدها.. ليتني كالأمثال لا تُنسى على مرّ العصور.. ليتني كل ما كتبت عن نفسي أشكّل أحرفها وأُجيد صياغة مفرداتها.. تمنيت لو أنني الكاتب الحامل حقيبة وأوراق.. يجلس على مقهى فيُسهب في الكلمات.. ليت المسألة مجرد قلم وقهوة وموسيقى ويوم صاف.. بودّي لو كان الألم عبارة عن مراوغات وهم.. ليت المكاشفة عندما تحين تحمل معها بذور الأمل وتنثره في الأرض القديمة وتجمع الفصول الأربعة في نهار واحد.. آهٍ لو أن الأبيض الطبشورة لا يعرف الأسود من اللوحات.