|


أحمد الحامد⁩
حكاية من ذاكرتي
2020-05-05
لا أذكر تحديدًا الرجل الذي حكي الحكاية التالية في عصر ذلك اليوم في ديوانية والدي، لكنني أتذكر الضحك الذي انتهت عليه الحكاية، كما أنها كانت لها حكمتها التي لم أفطن إليها إلا بعد مرور السنوات.
يحكى أن رجلاً صالحاً اسمه “جبر” ولد وعاش حياته في قرية غادرتها الأخلاق منذ زمن طويل، كبيرها لا يرحم صغيرها وصغيرها لا يحترم كبيرها، يسرق الجيران بعضهم بعضًا وتتزاحم لغتهم بالمفردات الفاحشة، لا شهامة عند رجالهم ولا عفة عند نسائهم، أما المروءة فقد لفظت أنفاسها منذ زمن، عاش هذا الرجل ماضيًا من حياته بصورة سيئة جداً في محاولة إصلاحهم واتقاء شرورهم لكنه فشل فشلاً ذريعاً، كان يصلح أن يطلق على حياته بالكابوس المرعب الطويل، في إحدى الليالي وكان “جبر” قد بلغ أواخر الأربعين، فكر في أن يهاجر بعيداً عن قريته حتى يعيش ما تبقى من سنوات حياته في هدوء وطمأنينة، وبعد أن يئس تماماً من أبناء قريته، خرج عند الفجر وسار متجاوزاً القرى والمدن ونام الليل بجانب إحدى الأشجار، ثم سار مجدداً متجاوزاً القرى والمدن وفعل في اليوم الثالث نفس ما فعله في اليومين السابقين، في اليوم الرابع انطلق في مسيره محاولاً الابتعاد أكثر قدر المستطاع عن قريته، لكن التعب والجوع أنهكا جسده وأحس بالمرض والضعف الشديد، وصل إلى مدينة صغيرة جميلة ودخل إلى حديقة مليئة بالورود والنباتات النضرة حتى يرتاح ويستعيد أنفاسه، لكنه شاهد العديد من القبور تتوزع في أرجاء الحديقة، ثم لاحظ أن جميع العبارات التي كتبت على القبور كتب معها عمر المتوفى وجميعهم كانوا فتية وشباباً، فمثلاً هذا قبر كتب عليه اسم المتوفى وعمره 18 عاماً، وذاك كتب عليه 20 عاماً، وذاك كتب عليه 16 عاماً وهكذا، ثم شاهد جبر حارس المقبرة فذهب إليه وسأله عن سبب موت هؤلاء الشباب والفتية وهم بهذه الأعمار، وإن كان هناك وباء قد تسبب في موتهم أو حرب ماتوا فيها؟ أجابه حارس المقبرة بأنهم في هذه المدينة لا يسجلون سنوات العمر كله بل السنوات السعيدة منه فقط، فذاك عاش 20 عاماً من السعادة فسجلنا عمره 20 عاماً رغم أن عمره الحقيقي قد تجاوز السبعين عاماً، هكذا تسجل الأعمار هنا.. السنوات السعيدة فقط، فهم جبر سبب الأعمار الشابة التي كتبت على القبور، ثم شعر بالآلام تشتد في جسده، وبدأت أنفاسه تتقطع، تمدد بجانب الحارس الذي قال له: هل تشكو من شيء؟ فأجابه جبر بأنه يشعر بأن أجله قد اقترب وأنه سيموت الآن، فسأله الحارس: وما اسمك وكم تبلغ السنوات السعيدة التي عشتها في حياتك كي تكون عمرك الذي نكتبه على قبرك؟ فأجابه جبر وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة قائلاً: جبر.. من بطن أمه للقبر.
لهذه الحكاية دلالات متعددة، منها أن المكان في أحيان كثيرة يحدد مصير الإنسان، فإذا ولد وعاش في مكان متحضر ويسود السلام والصدق والأخلاق الرفيعة بين ساكنيه، فإن الإنسان الذي يعيش في مثل هذا المكان سيعيش سنوات عديدة مليئة بالسعادة، وهذا ما نحمد الله عليه اليوم من أمن ونعم وطمأنينة، أما من شاء قدرهم أن يولدوا ويعيشوا في قرية أو مدينة مثل المكان الذي ولد فيه صاحبنا، فلا شك أن حياته قد حكم عليها بالتعب بالشقاء، وهكذا هي الدول اليوم، الدولة والزمان هما من يحددان لك عدد سنوات سعادتك، أو أنها قد تكون كما قال صاحبنا جبر.