|


أحمد الحامد⁩
شيء من ترحال
2020-08-01
ما إن أستقر في مدينة حتى تخرج تلك الأسئلة التي تختار مواعيد ظهورها متى ما أرادت ودون مراعاة لأي ظرف: ثم ماذا أيها الغريب.. ألم يحن وقت الرحيل؟ وإن أجبت بالنفي.. ردت تلك الأسئلة بجملتها التهكمية التي اعتدتها: سيأتي اليوم الذي تغادر فيه هذا المكان.. لن أساعدك في حزم أمتعك.. ستكون متعبًا حينها كالعادة..
أظن أن بعض البشر اعتادوا الترحال، شيء نما وصار يسكن غريزتهم، وقد تكون رحلتهم الأولى إجبارية، لكن ما لحقها كان اعتيادًا، هكذا أصبحت منذ سنوات، كلما اعتدت على مدينة وصادقتها حتى وجدت نفسي أفكر في مستقبلي معها، ثم أجد أنني ودون إرادة مني أعيش حالة عدم الاستقرار، وكأن هناك مهمة ملحة عليّ إنجازها اسمها الرحيل، فأسأل عن المدن القريبة وأقرأ عن البعيدة، ثم أغادر من جديد، لست وحدي من يعيش مثل هذه الحالة، هناك كثر أيضاً، شاهدت عدة لقاءات تلفزيونية للكاتب الكبير محمود السعدني رحمه الله، لم يخلُ أي لقاء من الحديث عن مروره بالمدن والعواصم حتى اعتاد ذلك فتفرقت سنواته بين بيروت وبغداد ولندن، مروراً بالكويت والإمارات وعواصم أخرى قبل أن يعود إلى القاهرة كمحطة أخيرة، في أحد الأيام اللندنية اقترحت على أخي الراحل سعود الدوسري أن يشتري شقة بالتقسيط، حاولت أن أقنعه بأن دفع الأقساط الذي ينتهي بالتمليك أفضل من الإيجار الذي لا ينتهي بالتملك، حينها نظر من شباك السيارة إلى البعيد وقال: ومن قال لك بأنني سأبقى هنا..؟ وأكمل: أعتقد بأنني سأطوف على عدة مدن وعواصم، لا أعرف ما هي، لكنني سأعيش بها، ثم سافر إلى القاهرة ثم إلى بيروت، ثم عاد إلى الرياض قبل أن يذهب إلى دبي ثم يعود إلى بيروت، ترحال تحاوز الـ20 عاماً، واستمر في دفع إيجار مسكنه دون أن يتملك بيتًا حتى توفي في باريس، ليس الأمر بالسيئ، سواء كان اختيارياً أو غير ذلك، من الأفضل أن آخذ الأمر إلى الناحية الإيجابية، فلا السنوات تعود ولا الإنسان يختار أقداره، يضيف الترحال على العقل ما لا تعطيه المعاهد والجامعات، ويُخرج الإنسان من إطاره الضيق إلى الفضاء الأرحب، فيكتشف مع طول المدة أن البشر في كل العالم متشابهون ويلتقون في رابط واحد هو الإنسانية، وهو ما يصنع الخير في العالم ويواجه ظروفه القاسية ويجبر الخواطر، وجبر الخواطر من أكرم المهام التي يفعلها الإنسان في حياته، يبقى أمر مهم لا يعطيك إياه الترحال، الوطن.