|


فهد عافت
..أنْ تكون لديك مكتبة!
2020-08-16
- ماذا يعني أن تكون لديك مكتبة؟! أن تكون محاطًا بالكتب من خمس إلى ست ساعات يوميًّا؟!
- يعني أنك تكون محاطًا بآلاف مؤلّفة من الأفكار، والرؤى، والتأمّلات، والأسئلة!. يعني أن تكون آلاف الحكايات قريبة منك، حكايات جور وعدل وحب وكراهية وتضحية وانتقام وقدوم ورحيل وحزن وضحك وأصناف كثيرة أخرى!. وأنت تعيشها كلّها، تحياها وتشارك في كل واحدةٍ منها بمقدار!.
- بعض ما تقرأه يسكن فيك ويحرّكك!، يغيّر من فهمك ونشاطك، ويُربّيك!.
بعض ما تقرأه يرقّق مشاعرك أو يجعلك صلبًا أكثر ممّا كنت تظن!.
بعض الكتب تُعيدك سيرتك الأولى وبعضها تقفز بك فجأة إلى ما بعد الموت وما فوق الحياة!.
- حتى تلك الكتب التي لا تقرأها تناديك، وتتواصل معك بشكل وبآخر!. أحيانًا تفعل ذلك عبر قراءاتك المتكررة لعناوين أغلفتها!. وأحيانًا، عبر لمسها، نعم، مجرّد لمسها يشعرك أن حروفًا منها تساقطت كبذور في تربة يدك!. أَوَلَسْتَ من تراب؟!. يمكن لهذه البذور أن تنبت إذن!.
- في كل حديقة تقريبًا، هناك نباتات تنمو لا علم لصاحب الحديقة بها. لم يزرعها، ولا يدري عنها شيئًا، ربما يتخلّص من بعضها، لكن بعضها، قليلًا منها، يبقى مُساهمًا في في ظل، أو في جعل النباتات المجاورة ذات بهجة أكثر ممّا كانت ستبدو عليه في غياب شجرة الصّدفة هذه!.
- التنافس فطرة في كل كائن حيّ. ويمكن القول إن التنافس دليل على أن هذا الكائن حيّ أصلًا!.
أنت إن شعرت بأن مكانين يتنافسان على حجز تذكرة سفرك إلى أحدهما، فستختار، علمتَ أم لم تعلم، ما شَعُرَتْ به نفسك أنه أكثر حياة!. لكن هذا لا يُميت المكان الآخر!. المكان الآخر يبقى في الذاكرة، وفي البال، مثل حلم أو رغبة، وهذا دليل حياته: دليلها وربما سببها!.
- الكتب كذلك!. كائنات حيّة تتنافس عليك، طالبةً، راغبةً صُحبتك!. حتى ما لم تقرأه منها، يظل محتفظًا لك بجميل حلمك به، أو اقتنائك له، وربما، بحكاية الاقتناء: المكان، والمناسبة، والمزاج، وربما أيضًا، دردشة البائع والثمن!.
بعض الكتب تحفظ لك ما هو أكثر: علاقتك بمن أهداك الكتاب، ومناسبة الإهداء. حكايات حب وصحبة!. كل هذا يُمكن لكتاب لم تقرأه بعد، لكنه في مكتبتك، أن يعطيك إيّاه، فما بالك بتلك الكتب التي قرأتها؟!.
- لا أظن أنه يمكن لقارئ الكتب، إلا وأن يشعر بالامتنان العظيم لهذه الكتب. ألف سبب وسبب يمكن سرد قصّته في هذا الشأن. أكتفي بسببين، ليس لأنهما الأهم ولا لأنهما الأجمل، لكن، وبصراحة، لأنني عندما ظننت أن الكتابة انتهت، وأنني قلت ما عندي، رفرف كل واحدٍ منهما بجناحية حولي!.
- أولهما، إنّ تنافس كُتُب مكتبتك عليك، يتم بنُبل وسلام عظيمين!. كل كتاب يريد صحبتك، لكنه لا يتخطّى حدود الأدب والأخلاق، فهو لا يكيد لمنافسه، ولا يتصنّع حيلةً ليست فيه أو منه أو له، فإنْ هو كسب الرهان تكاثر من ناحيتين، ناحية تحريضك على قراءة كتاب آخر، وناحية أنك ما إن قرأته حتى أسهمت، تلقائيًا، بإعادة تأليفه: أخذ منك وأخذت منه، ولم تفهمه أو تحبه لولا هذا التبادل الكريم بينكما في الأخذ والعطاء!. بقراءتك له صار كتابين، بعد أن كان كتابًا واحدًا!.
- السبب الثاني للامتنان، أنه ما من قارئ إلا ويشعر أن أشياء كثيرة في هذه الحياة، أفكار وأحاسيس وعلاقات، ماديّة ومعنويّة، كانت بحاجة إلى ترجمة، وأنه مثله مثل معظم الناس، كان يُترجِم، لكن فرقه عن الناس، وعن نفسه، أنه صار يعرف أن كثير من الترجمات كان ركيكًا، وأنه قد تحسّن كثيرًا، وتطوّر بشكل ملحوظ، في ترجمته لكل ما مرّ أو يمرّ به من أحداث وحكايات وعلاقات ومشاعر وتأمّلات!.
- حسنًا، سبب آخر يرفرف: في كتب الحكايات، القصص والروايات والمسرحيّات، يحدث كثيرًا أن يلتقي القارئ بشخصيّات تشبهه، شكلًا أو مشاعرًا وأخلاقًا أو ظروف حياة، ثم فجأة يجد أن عددًا من هذه الشخصيات، في لحظة ما وأمام موقف ما، يتصرّف على نحو مختلف عمّا كان يظن أنه سيقوم به، أو ربما حدث وأن مرّ به فعلًا وتصرّف بطريقة مختلفة أو معاكسة تقريبًا لتصرّف الشخصية في الرواية!. مثل هذا الأمر يُحدث هزّة قد تكون إيجابية وقد تكون سلبيّة، لكن حتى هذه الشحنة السلبيّة يمكن استثمارها وإعادة إنتاجها لتكون هي أيضًا إيجابية فيما بعد!.
- إن وُجِدَتْ مثل هذه الشخصيّات في الرواية الفخمة، المكتوبة بمهارة روائي مبدع، فإنها تكون قادرة على نفضك نفضًا!. إنْ تصرّفتْ الشخصيّة التي هي أنت، أو فيها منك الكثير، على نحو مغاير عمّا فعلتَ حين وقفت نفس الموقف، وكان تصرّفها خيّرًا ونبيلًا، فإن كل أعذارك وتبريراتك لنفسك ستتبخّر!. قِناع ما ملتصق بجلدك سيُنزع!. الطبيعي أن تشعر بألم لطول بقاء صمغ القناع على وجهك، والعجيب أنك ستشعر بلذّة ما لحدوث مثل هذه العملية شبه الجراحيّة!. ستجد نفسك أمام نفسك من جديد، أمام نفسك حقيقةً، دون مساحيق، وستشعر بسلبيّتك، وتتّهم نفسك، وتحكم عليها بما لا يرضيها!. حسنًا، هذه المشاعر السّلبيّة يمكن استثمارها سريعًا، وتحويلها إلى طاقة إيجابية، فإن كان ما مضى يمكن إصلاحه فإنك ستقوم بذلك، وإلا فإنك لن تعيد نفس هذه التصرفات فيما لو حصل ووقعتْ لك من جديد!. ولسوف يكون هذا أمرًا طيّبًا، شكل من أشكال الانتقام الإيجابي والثأر الخيري!.
- مثل هذه الالتقاطات تُحرّم عليك دفن رأسك في رمال الأعذار الخائبة والتبريرات المفتقِدَة للوزن والإنصاف!. مثل هذه الشخصيّات تقوّيك. كثيرًا ما يكون الإنسان قادرًا على التصرف بشكل أفضل، ويريد ذلك، لكنه بحاجة إلى أن يرى إنسانًا آخر غيره يقوم بنفس التصرّف ليتجرّأ، ويعيد اكتشاف نفسه!.
- أحيانًا، يحدث العكس، ويكون تصرّفك أنبل وأكرم وأقوى من تصرّف الشخصية الشبيهة لك في الرواية، وفي هذا منحة، وهديّة من الكتابة، وشهادة تقدير لك، تسعد بها، بالرغم من حزنك، وربما غضبك، على الشخصية في الرواية!.