أحمد الحامد⁩
اللغة الأولى
2020-12-27
منذ طفولتي وأنا أحب الأغنية والموسيقى، ألحن الكلمات التي تتبادر إلى ذهني، وكثيرًا ما أغرورقت عيناي وأنا أصنع لحنًا لا حدود له، تمامًا مثل جهلي الموسيقي حينها، أعزف في فمي، أتنقل بين المقامات، وأوزع الموسيقى كيفما أشاء.
اليوم أعرف أن تلك الدموع جاءت من شجن اللحن، حتى وإن كان لحنًا طفوليًّا وغير محترف، لكنه كان وسيلة كافية ليكون معبرًا عما في داخل ذاك الطفل الصغير، أشياء قد لا يعرف كيف يصفها، أو حتى يفهمها، لكن الأغنية والموسيقى كانتا كافيتين كوسيلة للتعبير عمّا لا يدري كيف يقوله أو يدركه، أو قد يكون منجذبًا لاكتشاف هذا العالم المدّر للإحساس، قد تبدو هذه المشاهد من طفولتي مضحكة، خصوصًا للذين يرون أن الموسيقى مجرد ترفيه أو ليست مهمة، وأن العالم لن ينقص شيئًا إذا ما اختفت الموسيقى، لكن تلك المشاهد بالنسبة لي هي من أفضل القراءات التي استطعت التوصل إليها عن طبيعتي الأولى، وعن أثر وقوة الموسيقى.
أما أنا فكنت طفلاً يحب الموسيقى والأدب، أما الموسيقى فأرادت أن تقول لذلك الطفل وهو على أعتاب الحياة، أنها اللغة الوحيدة المشتركة والثابتة في كل زمن ومع كل ما هو حوله، طالما أن للحركة أصواتًا، وطالما أن الأصوات مختلفة، كلما سافرت بلدًا لا أجيد لغته، أحاول أن أبتعد عن الحديث مع سكان البلد، لكنني أجد نفسي منجذبًا للموسيقى التي أسمعها في الطرقات، وأتوقف طويلاً أمام كل عازف يضع أمامه علبة صغيرة، لكي نضع له فيها النقود بعد أن ينتهي من عزف مقطوعته، وأجدني أضع له النقود دون تردد، قد لا يكون كرمًا، وليست محاولة لمساعدته، قد يكون السر أنه تحدث بلغتي، وأقصد بلغتنا نحن الاثنين، والأصح بلغة جميع من كانوا يستمعون إليه.
أستطيع القول إن الموسيقى هي اللغة الأولى في العالم، وليست الإنجليزية أو الصينية، فنحن نستمع للموسيقى الكوبية أو الهندية، وهم يستمعون إلى موسيقانا، دون أن يعرف أحد منا لغة الآخر، وهكذا تحدث معنا شوبان البولندي، وموزارت النمساوي.
أتذكر عندما سافرت إلى بريطانيا للمرة الأولى، كنت لا أجيد شيئًا من الإنجليزية، لكنني استطعت أن أقول للمرأة التي استأجرت شقتها الصغيرة بأنني عربي، ما إن سمعت كلمة عربي حتى ابتسمت وتحدثت بلغتنا الأولى وغنت: يا مصطفى يا مصطفى.. أنا بحبك يا مصطفى.