أحمد الحامد⁩
نظرية عم فاروق
2021-03-19
عربة عم فاروق دائماً نظيفة مثلما ملابسه، وابتسامته لا تفارق وجهه الستيني، يقف عدة ساعات عند زاوية الشارع الذي حافظت بناياته على أناقتها رغم تقدمها في الزمن، كانت رائحة الفول الشهية أكبر من مقاومتي في ذلك الصباح الشتائي.
وكانت تلك المرة الأولى التي أقف فيها بجانب عربة فول في القاهرة، بعد أن تذوقت الفول علمت لأي درجة يحب هذا الرجل مهنته، ومدى إخلاصه لزبائنه، وعندما أردت الدفع قال: “لأ يا أستاذ مش من أول مرة.. أنت ضيف علينا”. وعندما أجبته بأنه لا يجوز أن آكل دون أن أدفع.. قال بابتسامة يملؤها العطف: “ومالو”؟ وعندما شاهد إصراري ممسكاً بالمال، طبطب على يدي قائلاً: “فيه إيه يا أستاذ.. انت بترفض عزومتي ليه”؟ في الأيام التالية كنت أدفع للصبي الذي يساعده تحاشياً للحرج، صار حضوري عند عربة الفول بالنسبة لي أكبر من تناول الفول الذي اعتدت على طعمه، صرت أستمتع بالحديث معه، وأشاهد كمية الصبر والرضا على وجهه، وأعد كم مرة يقول فيها: “ومالو.. للذين يؤخرون الدفع للأيام القادمة”، سألته إن كان بعضهم لا يعود لكي يدفع له، فقال بإنه لا يحسب ذلك، “من يريد أن يدفع فليدفع، ومن لا يعود لكي يدفع يكون معهوش فلوس.. أهو أنا عايش وبكسب من اللي بيدفع”.. غادرت القاهرة وعدت بعد عام، سكنت في منطقة بعيدة عن عم فاروق، لكنني ذهبت للسلام عليه، رحب بي ترحيباً حاراً، وعندما اعتذرت منه على سفري دون السلام عليه قال: “ومالو.. تكون مشغول ولّا حاجة”، قدم لي صحن الفول واستعدت الطعم الذي اشتقت إليه، وغادرت، عدت إلى القاهرة مرتين، لكنني لم أذهب للعم فاروق، لم تمنعني زحمة الأعمال، أسميها إهمال الود، بعد سبع سنوات وعندما عدت إلى القاهرة شاهدت عربة فول وتذكرته، ذهبت إلى مكانه، شاهدته من بعيد.. كانت حركته أبطأ، وبدا أن أحداً كان يقف بجانبه ويقتسم العمل معه، خشيت أنه لن يتذكرني، وعندما سلمت عليه.. تمعن في وجهي وقال: “انت كنت فين.. أنا قلت حد زعلك ومرجعتش مصر”!.. وعندما اعتذرت منه قال: “ومالو.. تكون انشغلت ولّا حاجة”. كان الزمن يعيد نفسه، ناس تأكل وتدفع، وناس تؤجل الدفع وتدفع، وناس تأكل ولا تعود لكي تدفع، وعم فاروق يكسب، بعيداً عن كل الحسابات التجارية ونظريات البزنس، كان يكسب بنظرية الرضا والصبر.. ومالو..