كلَّما مللت من الكلام والاستماع، لجأت إلى كتب محدَّدة، أعيد قراءة أحدها وكأنني أقرأه للمرة الأولى، فأدخل في عالم الكاتب، وأخرج من عالمي الذي أردت الخروج منه مؤقتًا.
كتاب “دولة الإذاعة” لإبراهيم الزبيدي أحد هذه الكتب التي قرأتها مرات عدة، ولا أذكر أنني وجدت الكتاب مرَّةً على رف مكتبة ولم أشتره. أهديته مرَّات عدة لمَن أحبهم، ونصحت بقراءته كل باحث عن رحلة من المتعة الخالصة والدهشة والتأمُّل، وأحتفظ منه بنسختين. الكتاب عبارةٌ عن مزيج شيِّق من سيرة الإعلامي إبراهيم الزبيدي، قصَّها علينا بأسلوب السهل الجاذب. الفارق أن هذه الحكايات التي عايشها الكاتب بنفسه، أو كان شاهدًا مباشرًا عليها، ترتبط بأسماء عربية شهيرة لسياسيين وشعراء وفنانين. بالنسبة لي، لا تهمني السياسة، فما أحبه هو الأدب والفن. وبالأمس أثناء قراءتي له، توقفت عند حكاية، قالها الملحن الكبير محمد الموجي لصديقه إبراهيم الزبيدي عن أول لحن قدَّمه لأم كلثوم “للصبر حدود”. وتفسِّر هذه الحكاية شيئًا من الأسباب التي أوصلت أم كلثوم إلى هذه المكانة الفنية غير المسبوقة، وأنها لم تبلغ ما بلغته لروعة صوتها فقط، بل وللعقلية الفنية العالية التي قادت بها جمال صوتها أيضًا. يقول الموجي لصديقه إبراهيم: “لحَّنت كلام للصبر حدود بسرعة، فرحًا بأنني ألحِّن للمرة الأولى لأم كلثوم. ذهبت مع عودي لأسمعها اللحن، الذي اعتقدت بأنها ستفرح به، وتبدأ بحفظه على الفور. كنت أغني وهي صامتة تستمع. لم يكن يبدو على وجهها أي دليل على أي شيء. لم أعرف هل أحبَّت اللحن، أم لم تحبه إلى أن انتهيت، فاعتدلت في جلستها، وقالت: يا محمد خذ اللحن ده وإديه لعايدة الشاعر. وعايدة الشاعر يومها كانت مغنيةً مشهورةً بالأغاني الخفيفة القصيرة البسيطة الساذجة. يقول الموجي: لقد دارت بي الأرض. حملت عودي وخرجت، وأنا أعتقد بأن الدنيا قد اسودَّت في نظري، وأنني لا أصلح لشيء اسمه موسيقى وتلحين، واعتكفت وامتنعت عن العمل، وقاطعت جميع الناس، وغرقت في خدر دائم. وذات يوم صحوت وفي رأسي فكرة: لماذا لا أسمع اللحن بتجرُّد. أدرت جهاز التسجيل بهدوء، سمعت، ثم أعدت الكرَّة من جديد، فقلت مع نفسي: نعم، أم كلثوم معها حق. إنه لحن أقل بكثير من مقامها، وأبعد ما يكون عن طبيعة صوتها وأدائها، فأمسكت بعودي، وانطلقت ألحِّن، وكأن قوة ربانية عجيبة كانت تمسك أصابعي، وتملي عليَّ بداية لحن للصبر حدود، وقبل أن أمضي أكثر في تلحينه، أدرت رقم هاتف أم كلثوم، وطلبت أن أحدِّثها بأمر مهم. قالوا لي إنها نائمة. فالتمست منهم أن يوقظوها. وحين أفاقت، حييتها ببرود، وقلت: هل يمكن أن تسمعي مني؟ سألت الآن يا محمد؟ لم أجب بل رحت أداعب أوتار عودي وهي تستمع، وحين بلغت نهاية المذهب، صاحت بفرح كبير: أيوه يا محمد هو ده، هو ده اللي كنت مستنياه منك”.
كتاب “دولة الإذاعة” لإبراهيم الزبيدي أحد هذه الكتب التي قرأتها مرات عدة، ولا أذكر أنني وجدت الكتاب مرَّةً على رف مكتبة ولم أشتره. أهديته مرَّات عدة لمَن أحبهم، ونصحت بقراءته كل باحث عن رحلة من المتعة الخالصة والدهشة والتأمُّل، وأحتفظ منه بنسختين. الكتاب عبارةٌ عن مزيج شيِّق من سيرة الإعلامي إبراهيم الزبيدي، قصَّها علينا بأسلوب السهل الجاذب. الفارق أن هذه الحكايات التي عايشها الكاتب بنفسه، أو كان شاهدًا مباشرًا عليها، ترتبط بأسماء عربية شهيرة لسياسيين وشعراء وفنانين. بالنسبة لي، لا تهمني السياسة، فما أحبه هو الأدب والفن. وبالأمس أثناء قراءتي له، توقفت عند حكاية، قالها الملحن الكبير محمد الموجي لصديقه إبراهيم الزبيدي عن أول لحن قدَّمه لأم كلثوم “للصبر حدود”. وتفسِّر هذه الحكاية شيئًا من الأسباب التي أوصلت أم كلثوم إلى هذه المكانة الفنية غير المسبوقة، وأنها لم تبلغ ما بلغته لروعة صوتها فقط، بل وللعقلية الفنية العالية التي قادت بها جمال صوتها أيضًا. يقول الموجي لصديقه إبراهيم: “لحَّنت كلام للصبر حدود بسرعة، فرحًا بأنني ألحِّن للمرة الأولى لأم كلثوم. ذهبت مع عودي لأسمعها اللحن، الذي اعتقدت بأنها ستفرح به، وتبدأ بحفظه على الفور. كنت أغني وهي صامتة تستمع. لم يكن يبدو على وجهها أي دليل على أي شيء. لم أعرف هل أحبَّت اللحن، أم لم تحبه إلى أن انتهيت، فاعتدلت في جلستها، وقالت: يا محمد خذ اللحن ده وإديه لعايدة الشاعر. وعايدة الشاعر يومها كانت مغنيةً مشهورةً بالأغاني الخفيفة القصيرة البسيطة الساذجة. يقول الموجي: لقد دارت بي الأرض. حملت عودي وخرجت، وأنا أعتقد بأن الدنيا قد اسودَّت في نظري، وأنني لا أصلح لشيء اسمه موسيقى وتلحين، واعتكفت وامتنعت عن العمل، وقاطعت جميع الناس، وغرقت في خدر دائم. وذات يوم صحوت وفي رأسي فكرة: لماذا لا أسمع اللحن بتجرُّد. أدرت جهاز التسجيل بهدوء، سمعت، ثم أعدت الكرَّة من جديد، فقلت مع نفسي: نعم، أم كلثوم معها حق. إنه لحن أقل بكثير من مقامها، وأبعد ما يكون عن طبيعة صوتها وأدائها، فأمسكت بعودي، وانطلقت ألحِّن، وكأن قوة ربانية عجيبة كانت تمسك أصابعي، وتملي عليَّ بداية لحن للصبر حدود، وقبل أن أمضي أكثر في تلحينه، أدرت رقم هاتف أم كلثوم، وطلبت أن أحدِّثها بأمر مهم. قالوا لي إنها نائمة. فالتمست منهم أن يوقظوها. وحين أفاقت، حييتها ببرود، وقلت: هل يمكن أن تسمعي مني؟ سألت الآن يا محمد؟ لم أجب بل رحت أداعب أوتار عودي وهي تستمع، وحين بلغت نهاية المذهب، صاحت بفرح كبير: أيوه يا محمد هو ده، هو ده اللي كنت مستنياه منك”.