|


أحمد الحامد⁩
بيئة وجينات.. وموهبة
2023-11-02
هل جينات الإنسان تختار له مواهبه وعاداته، أم بيئته هي من تحدد، أم الاثنتان معًا. اليوم عندما أتأمل ماضي حياتي وحياة أصدقاء الطفولة أجد أشياءً من معالمنا كانت واضحة منذ ذاك الزمن، صديق الحارة راشد كان يقف طويلًا أمام لافتات المحلات، يقرؤها، ثم يرفع يده ممسكًا بقلمه الخيالي، ليعيد كتابتها في الهواء من جديد، وكان يستعين بالكتابة على التراب إذا ما كان قريبًا منه، لم تكن ثقافة حمل الورقة والقلم بالجيب موجودة، كان أكثر ما في جيوبنا حينها إما (مصاقيل) في موسم الشتاء، أو (نبيطة) في فصل الصيف.
لم أشاهد يومًا أجمل من خط راشد، دون أن يدخل معهدًا لتعليم الخط، أو يدفعه أحد ليصبح خطاطًا. مازال خطه بالنسبة لي الأجمل بين كل من رأيت خطوطهم من الأصدقاء والزملاء، كان جمال خطه يقول بأن راشد ولد ليكون فنانًا في الخط العربي. في حكاية راشد لم تكن لبيئته (بيته ومدرسته) أية تأثيرات، لا إيجابية ولا سلبية، كان موهوبًا بالفطرة. الطفل الثاني كان أيمن، زميل دراسة منذ الأول الابتدائي إلى الثلث الأول من السنة الابتدائية الرابعة، كان طفلًا عاديًا، لم يكن متميزًا في أي شيء، لا في الدراسة، ولا في الرياضة، ولا في القوة الجسدية، وفي نهاية الثلث الأول من السنة الرابعة جاء والده ليصحبه لمدرسته الجديدة، حيث انتقلا إلى منزلهم الجديد في منطقة بعيدة، وقف أيمن عند باب الفصل ينظر إلينا نظرته الأخيرة، ثم انفجر بالبكاء، احتضنه والده ومسح على رأسه وغادرا، شعر الجميع بعد بكاء أيمن بالتقصير ناحيته، لم نكن نعلم بأنه يحمل في قلبه لنا كل هذا الحب. نسينا أيمن بسرعة، ولم نشاهده مرة أخرى إلا في نهاية العام، حينها كان ما يسمى باليوم الموسيقي، حيث تجتمع الفرق المدرسية من مختلف المدارس تتنافس فيما بينها، كانت دهشتنا كبيرة عندما بدأت إحدى الفرق بالعزف، وكان أيمن عازفًا على البيانو، كان عزفه رائعًا، ولعب دورًا كبيرًا في ظهور فرقتهم الموسيقية ظهورًا متميزًا مكنهم من نيل جائزة. لم يكن أيمن شخصًا آخر، كان هو أيمن نفسه الذي لم نعرف له أية موهبة سابقًا، لكنه وبمجرد أن انتقل إلى بيئة جديدة اكتشفت موهبته ليصبح أيمن الموهوب. هنا كان للبيئة الدور الكبير في اكتشاف موهبته، وربما اكتشاف نفسه. ماذا لو لم ينتقل أيمن إلى مدرسة أخرى؟ الأغلب كان سيبقى الطفل العادي الذي يعتقد معلمو مدرسته أنه بلا موهبة!.