|


فهد عافت
المُرَوِّج!
2021-11-14
ـ حدث يومًا، أنْ قدّم رجل فرنسي، اسمه “برنار بيفو”، برنامجًا تلفزيونيًّا عن الكُتُب. لم يكن “بيفو” متمرّسًا في الإعلام، ولم تكن لديه خبرة مُعتَبَرَة، بل ولا حتى دراية، بالتعامل مع الكاميرا!.
ـ حضَرَ بسلاحه الوحيد: قراءة الكتب بشغف، واقتفاء آثار الكتّاب. استمر البرنامج على التلفزيون الفرنسي لأكثر من عشرين عامًا، فمنذ البدء أثبتَ “بيفون”مهارة بفن محاورة الأدباء، وبقدرة لها طابع يشبه السحر بتحبيب الناس في القراءة. أخطأ وأصاب، وتعامل مع البرنامج بمستلزمات العمل التلفزيوني لبرنامج أسبوعي من حيث انتقاء الضيوف حسب المُتاح والممكن، في النهاية صار برنامجه مقياسًا لمدى نجاح الكتّاب ورواج الكتب كما لم تفعل، ولن تفعل، أكبر وسائل الإعلان والدّعاية والتّرويج مدفوعة الثّمن!.
ـ الكتب التي يتناولها “برنار بيفو” في حلقة برنامجه الأسبوعية صارت تحقق رواجًا هائلًا، وتبيع نسخًا أكثر، بدءًا من اليوم التالي لعرض الحلقة!.
ـ بعد توقّف البرنامج، طلب مؤرّخ مثقّف، اسمه “بيير نورا”، من “برنار بيفو” الموافقة على إجراء حوار بمناسبة الحلقة الأخيرة من برنامجه الشهير “أبوستروف”. فوجئ بالرّد: لا أجيد المحادثة الشّفويَة!. تم تعديل الخطّة، وصار الحوار كتابيًّا عن طريق المراسلة!. ولأنه صار كذلك، ونتيجة لما أثارته المراسلات من بهجة لدى الطّرفين، فقد طال الحوار وامتدّ، ليصبح كتابًا. اسم الكتاب: “مهنة القراءة”. ترجمه إلى العربيّة “سعيد بوكرامي”. منشورات دار تكوين.
ـ لقد رأى “بيفو” أن هناك طريقًا أفضل لتكريم الذّكاء، ألا وهو الاختيار عن طريق النقد!. كان هذا الإيمان بمثل هذه المقولة صادقًا، وربما كان أحد أهم أسباب نجاح البرنامج، مع التأكيد أننا لا نتحدث عن نجاح عادي أو طبيعي، فقد رأت فرنسا كلها أنّ “بيفو” هو الناقد الأهم، وربما الوحيد الذي لرأيه في الكتب اعتبارات مبجّلة وتأثير فاعل وفوري!.
ـ مع ذلك ظلّ “بيفو”، وبتواضع يليق بالأدباء الكبار، يرفض تصنيف نفسه كناقد!، ويرى أنّه أقلّ من ذلك: “الناقد الأدبي ذاكرة كبيرة للكِتَاب، بالإضافة إلى تمتّعه بثقافة شاملة وروح استكشافيّة وقوّة تحليليّة، بالإضافة إلى مواهب حقيقيّة ككاتب”!. كان يرى أنه بعيد كل البعد عن أن يجمع كل هذه الصّفات!. واكتفى بتصنيف نفسه: مروِّجًا!.
ـ أحد أهم الأسئلة التي طُرِحَت عليه في كتاب المراسلات المشوّق هذا، سؤال أعتبره في منتهى الذّكاء والفطنة. “بيير نورا” يسأل: كيف تتخيّل الحالة العقليّة للقارئ الذي قرأ لمدّة خمسة عشر عامًا جميع الكتب التي أوصَيْتَ بها، ولم يقرأ سواها؟!. وجاء الرّدّ مستقيمًا، لا تواضع زائف ولا غرور: “أعتبر أنّ هذا القارئ يُمكن مُعاشَرَته. بالتأكيد سيظهر لنا قسمٌ من ثقافته في شكل طبقات ثقافيّة مشوّشة جدًّا، ذات تنوّع فوضويّ. ولكن، في خضم هذه الصُّهارة الكُتبِيَّة، هذا الخليط من الأسماء والعناوين والكلمات، هذا المستودع الصحفيّ، ربما سنجد أحدهم مثل طاولة “بينغ بونغ” متصدِّعة ومحدّبة!، حيث كنتُ أرسم برعونة، وأنا طفل، صورًا شخصيّة لوجوه ذات عيون ضاحكة وفم جائع، كان ينتهي بي الأمر دائمًا إلى تدميرها عن طريق إضافة شوارب صارمة أو متغطرسة، لم أتركها تنمو قطّ”!.
ـ لماذا هذه المقالة؟! أولًا لتقديم هذا الكتاب الممتع. ثانيًا لتأجيج الحلم برؤية برنامج ثقافي شبيه وله ذات التأثير!. ثالثًا لتحذير القارئ العادي، أو القارئ المبتدئ، من الاكتفاء بوصايا كتّاب الصحافة ونقّاد الأدب، وضرورة اقتحام المكتبة بجسارة مكتشف، وطيش عاشق!. ضرورة أنْ يترك لنفسه مجالات واسعة لانتقاء كُتُب لم يتحدث عنها أحد، وإلّا فإن مِرْآة القراءة لا ترحم، وسوف تُظهر له في نهاية المطاف: طاولة “بينغ بونغ” متصدِّعة ومحدّبة!.