|


فهد عافت
«بتغنّي لمين يا حَمَام»؟!
2021-12-05
ـ علاقتي بالطّيور بدأت باعتقاد خاطئ، لا أظنه اليوم يخلو من شاعريّة ما، في طفولتي، اعتقدتُ أن الحَمَامَة تأتي من الرّيشة!. الرّيشة تُسقى فتكبر وتصير حمامة!. كانت خدعة من أخي وصدّقتها. اقتنيت ريشتين، أطعمهما وأسقيهما، ريشة بيضاء وريشة سوداء. كانتا تأكلان وتشربان، فقد كان الماء ينقص والطعام يلتصق بهما!. وكلّما هبّت ريح، أعطاها أخي ظهره وأعطيتها وجهي، وطلب مني أن أنادي على كل واحدة من الرّيشتين. كانت الرّيشة البيضاء تصلني أسرع وتدلّني أكثر كلّما أطلقها أخي من يده!.
ـ قبل سنوات كان لدينا في “الاستراحة” عدد كبير من الطيور، حمام ودجاج وبط ووز، وطاووس وزوجته!. وبمراقبتها تأكّد لي أنّ الطاووس متّهم بالغرور والغطرسة ظُلْمًا وبهتانًا!. الطاووس الذّكر جميل وزاهي الألوان وهادئ ومسالِم، وليس فيه من الكِبْر شيء!. هو فقط يبتعد عن بقيّة الطيور لأنها تدوس على ريش ذيله الطويل، فيُنتَفُ أو يتّسخ!. وهو يحب ريشه ويعتني به، لا يريد فقده ولا يقبل اتّساخه، ولذلك يترك بقية الطيور إلى أن تنفضّ عن الطّعام، فيأكل وينظّف ريش ذيله بتغطيسه في الماء بهدوء وأمان!. أنثى الطاووس هي المتغطرسة والعدوانيّة، تطرد الطيور بعنف، لا تخشى شيئًا، ليس لها ذيل طويل ليُنتَف ولا ريش جميل ليتّسخ!.
ـ مؤلّفات كثيرة حملت اسم طيور. في كتاب “طوق الحمامة” وهو كتاب خفيف ظريف لطيف، مسطّر معطّر، يفرّق ابن حزم بين من أحبّ من نظرةٍ واحدة، وبين من لا يُحبّ إلا بعد المُطَاوَلَة: “..، فمن أحبّ من نظرةٍ واحدةٍ، وأسرع العلاقةَ من لمحةٍ خاطرة، فهو دليلٌ على قلّة الصبر، ومُخبرٌ بسرعة السُّلُوّ، وشاهدُ الطّرافة والملل”!. والطّرافة هنا مأخوذةٌ من قولهم: فلانٌ طَرِف، أي سريع الملل لا يثبت على عهد!.
وفي “باب من لا يُحبّ إلا بعد المُطَاوَلَة”: “ومِن الناس مَن لا تصحّ محبّته إلا بعد طول المحادثة، وكثير المُشاهَدَة، وتَمادي الأُنس، وهذا الذي يُوشِك أن يدومَ ويثبت”!.
ـ من “طوق الحمامة” لابن حزم، وعلى طريقة “رغيف اليوم من خميرة الأمس”، استقتْ المبدعة الكبيرة “رجاء عالم” اسم روايتها الرائعة “طوق الحمام”. كل ما تكتبه “رجاء عالم” مدهش ومشوِّق ومثير، و.. “يا إلهي.. كيف أنّ كتابةً بسيطةً تُعطينا هذا الفيض من السِّرِّيَّة والفرح”!. في هذا العمل الرّوائي الفخم كنوز ومفاتيح ياما، ويا لبهجة النّغم، كم هي: “عين الفن شافية بينما عين التاريخ تحفر النّدوب”!.
ـ لـ”باتريك زوسكند” رواية صغيرة رائعة اسمها “الحمامة” تحكي عن رجل تجاوز الخمسين لديه عُقدة مُرعبة من أي حَمَامَة!. خاضَ الحِمَام ويخشى الحَمَام!،..: “لا يُمكن لإنسان أن يعيش في بيت تسكنه حمامة. الحمامة تجسيد الفوضى والخلل”!. يرى أنّ الحَمَامَة خُلِقَت لتعتدي!، و..”للمُعتدي، بعكس الحارس، أسبقيّة المفاجأة التي لا تُقارن”!. رجل يرى أنّ الناس لا يُوثق بهم، لكن وبالرغم من ذلك، ينسف نظريّة المتنبّي!. يرى المتنبّي أنه “إذا عَظُمَ المطلوب قلّ المُساعدُ”، ويرى بطل رواية “الحمامة” أنه: “إذا عَظُمَت الحاجة يجد المرء سعدًا، يجد المرء مُساعَدَة”!.
ـ ماذا عن الدّجاج؟! يحكي لي صديق حكايتة العجيبة مع الدّجاجة الوحيدة التي امتلكها صغيرًا، تلك الدّجاجة التي تسبّبت في سجن أكثر من سبعة عشر شخصًا دفعة واحدة!. كان لدى صديقي دجاجة وحيدة، وفي يوم قال له أحد أبناء الحارة: ستموت الدّجاجة إن هي ظلّت وحيدة، أعطني إياها أضعها مع دجاجاتي ولك البيض والفراخ، والدّجاجة متى ما أردت!. أعطاه الدجاجة صباحًا، وفي المساء لعب بقيّة أبناء الحارة في رأسه، وأقنعوه أنه خُدِع. في صباح اليوم التالي طلب إرجاع دجاجته إليه، لكن الدّجاجة رفضت أن تُمسَك!، راغت وانحرفت وتزحلقت من بين الأيادي الصغيرة، قفزت قفزتين ووجدت نفسها أعلى جدار البيت، وبسرعة هبطت في بيت جيران صاحبه. كان البيت خاليًا لسفر أصحابه. حاول صديقه القفز إلى البيت ونجح، لكنه حين عاد لم يعد بالدّجاجة، لكن بألعاب صغيرة كثيرة وجدها في بيت الجيران!. كان هناك جمع كبير من الصِّغار يراقب المشهد، ما أن شاهدوا الألعاب حتى تقافزوا لنهب ما تبقى. كان من حسن حظ صديقي أنه كان ممتلئًا سمينًا، حاول القفز فلم ينجح، لكنه بعد يومين، اقتيد إلى الشرطة ليشهد على السارقين، كانوا سبعة عشر!.
ـ ومن ألطف ما قرأت، رواية “الدّجاجة التي حلُمَتْ بالطّيران” للرّوائي الكوري “صن- مي هوانغ”. صحيح: “لا تستطيع الأعرافُ صَدّ الصّيّاد”، لكن هذا لا يمنعها من التخيّل والأمنية والحُلُم!. قد يجعل الحلم الكبير حياتنا صعبة، لكن لا سبيل إلى حياة دون حُلُم: “لا أدري لماذا حياتي صعبة هكذا. هل يحصل هذا معي لأنّ لدي حُلُمًا”؟!. رواية تعيدك طفلًا، وتمكّنك من الطّيران بشكل أو بآخَر!.
ـ أختم بحكاية “الوزّة”!. يحكيها عبقري التمثيل الفنان المصري “حمدي أحمد” رحمه الله: في فرقة التلفزيون المسرحيّة، كنّا نعرض مسرحيّة “المفتّش العام”. أحد المشاهد يتطلّب وجود “وزّة”، في البداية قمنا باستئجار يومي للوزّة. قال زميل: إلى أنْ تنتهي أيام العرض سنكون دفعنا في هذه الوزّة تقريبًا مائة جنيه!. فاشتريناها بثمنها؛ خمسة جنيهات!. المسرح حكومي، الحسابات طلبوا فاتورة!. كتبنا ورقة وطلبنا من صاحبتها أن تبصم!. صارت الوزّة الآن “تَبَع الحكومة”!، ويجب أن تدخل المخازن برقم!. دخلت الوزّة المخازن، ودخلنا في مشكلة أكبر: مَن يُطعم الوزّة ويسقيها؟!. صارت هذه مهمّتنا!. وفي يوم ماتت الوزّة فدخل الجميع تحقيقًا رسميًّا في النيابة الإداريّة بتهمة الإهمال في المال العام!.