|


فهد عافت
تِرْيَاقَان وحَرَد!
2021-12-12
- بشغف، وحب وإعجاب وتعجّب، ما زلتُ أواصل قراءة كتاب “دروس الحب” لـ”آلان دو بوتون”. عادةً ما تكون الجسارة في الاقتحام ضدّ العمق والتّروّي، لكنهما يجتمعان في هذا الكتاب الفلسفي ببساطة وكأنهما لم يتعارضا يومًا ما!.
- القاعدة التي يتوجّب أن تبقى معنا طول الطريق هي أنّ “الحبّ مهارة لا فيض حماسة”!. الدّرس في هذه الجملة سيأخذ مكانته الأكثر أهميّة بعد أن يتطوّر أمر الحب تطوّره الطّبيعي وينتقل إلى مرحلة “الزّواج”!.
- في الزّواج، في السنوات الأولى منه خاصّةً، يكتشف كل من الطّرفين عوائق ومنغّصات لم تكن في الحُسبان!. مشاكل صغيرة، بل صغيرة جدًّا، وعلى أشياء تبدو تافهة، تعكّر الصّفو!. تمرّ في خاطر الطّرفين فكرة يحاول استبعادها، كَشَّها!، لكنها تحوم وتعود!. فكرة أنّه تسرّع بعض الشيء في اتّخاذ القرار الصّحيح!. أو إنّه فيما لو كان قد تمهّل قليلًا فلربّما وجد شريكًا أفضل!.
- قد لا يُصدِّق العشّاق ما قد يحدث بالفعل بعد الزّواج!. لا يمكن لعاشقيْن تخيّل أنّ الزّواج من شأنه جعل مسألة زيادة كميّة السُّكّر في الشّاي، أو عدم التّأكّد من إطفاء التّكييف أثناء الخروج، أو الاختلاف على الأغنية التي يتوجّب تشغيلها في السّيارة، أو طول المناقشة حول نوعيّة الأكواب المُراد شرائها للمطبخ!، أمورًا يمكن لها تعكير صفو يومًا بأكمله، على الأقلّ!. لكن الحقيقة أنّ هذا ما يحدث!. والحبّ الذي كان أعمى قبل الزواج، يصير بعد أشهر قليلة من الزّواج مبصرًا بشكل غثيث!، ولدرجة مُزعجة!.
- ما قبل الزواج تكون المشاعر كافية. “المشاعر” فقط!. بعد الزّواج يحضر “المنطق”!، ويُشاركها المكان بمزاحمة ثقيلة وضرورة بائخة!. يا للمفاوضات المنزليّة؛ كم هي قادرة على تضييق الصدر والصالة!.
- “إلّا أنّ هناك تريَاقَيْن موثوقَيْن يُنجّيان..”!. هذا ما يطرحه بوتون في كتابه “دروس الحب”: “التّرياق الأوّل هو الذّاكرة الضّعيفة”!. وهو ما نعنيه حين نقول بوجوب “التغافل”!.
أمام مثل هذه المشاكل الصغيرة ومعها، يتوجّب على كل زوجين تمرين نفسيهما على التّغافل!. على كل واحدٍ منهما تدريب ذاكرته على الضّعف!. حاذر أنْ تنسى تاريخ الزواج، أو يوم ميلادها طبعًا!، وحاذري مثله!. لكن بالنسبة للمشاكل اليوميّة الصغيرة، فلا بدّ من ذاكرة قويّة بضعفها!، ولا بد من نسيانٍ كانِس!. يتوجّب عدم حمل منغّصات ما بعد الفطور الصباحي إلى المساء!. هناك من ينشغل بها إلى اليوم التالي، وهذه مصيبة!.
-”وأمّا التّرياق الثاني، فهو من طبيعة أكثر تجريدًا: قد يكون صعبًا أن يظلّ المرء غاضبًا زمنًا طويلًا عندما يرى مدى اتّساع الكون”!. هذا يعني ضرورة الخروج من المنزل، وربما من زحام المدينة كلها!. ضرورة السفر ربما، أو على الأقل الخروج إلى البرّ وتأمّل الطبيعة: الأرض الفسيحة، والقمر والنجوم، والجبال والتّلال..!.
- تقريبًا، كلّنا جرّب ذلك، نصعد الطائرة، وما إن ترتفع قليلًا، وننظر من النافذة، حتى نرى السيارات صغيرة، والبيوت كذلك، وتصغر أكثر وأكثر حتى تختفي!. نتأمّل كم نحن صغار في هذه الحياة، ويداخلنا شعور بأن مشاكل مَن في السيارات والبيوت، ومشاكلنا على الأرض، صغيرة ويُمكن تجاهلها وإهمالها ونسيانها، وعدم حملها على أكتافنا وفي صدورنا أكثر ممّا تستحق ونحتمل!.
- مراقبة الطبيعة، وتأمّلها، يصنع الأعاجيب: “ جمال الطبيعة من حولهما يُحرّرهما، شيئًا فشيئًا، من وطأة حنقهما المُتَبادَلَة… تُحرّرهما تلك الطبيعة، لا من خلال تعاطفها معهما، بل من خلال لا مُبالاتها الهائلة!،…، تُوحي لهما تلك التّلال إيحاءً قويًّا بأنّ ذلك الخلاف الذي بدا في ذهنيهما أمرًا كبيرًا جدًّا، لا يشغل في حقيقة الأمر إلا مكانةً لا قيمة لها في نظام الكون”!.
- يُكثّف “آلان دو بوتون” الضّوء على أمر آخر، شديد الأهميّة، وهو ما يسمّيه بـ: الحَرَد!. والذي يتمثّل عادةً بعدم الإفصاح عمّا يُضايقنا للآخَر المحبوب شريك الحياة!. ويختصره المشهد المتكرر الشهير، حين يسأل أحد الطّرفين صاحبه: ماذا بك؟! فيأتي الرّد: أبدًا، لا شيء!.
- من أهم “دروس الحبّ” التّنبّه لمثل هذا الرّد الغاضب العاتب وتفهّمه بمحبّة وابتسامة!. أيّ من الزّوجين يجيب حين يسأله الآخر عمّا أغضبه وكدّر مزاجه بـ: “لا شيء.. لا شيء”!. فإن الجواب وإن كان من الخارج قاسيًّا وصادًّا، إلا أنّه من الدّاخل يحمل عتبًا محبًّا وثقةً تريد استرجاع مكانها ومكانتها!.
- من المهارة الواجبة قراءة ما لم يُقل!. فالجواب بـ: “أبدًا، لا شيء”، يخفي في ثناياه ردًّا آخر: إذا كنتَ أنتَ، وأنت الزوج الحبيب، لا تعرف ما الذي بي دون سؤال وجواب، فهذه الدنيا مخيفة ولا يُمكن الاطمئنان إليها أو بها أبدًا!. وإذا كان الجواب يُخفي كل هذه الملامة الحزينة، فذلك لأنه يرى في السؤال إهانةً ما!. إهانة للحب على الأقل!. حين نضع أحدًا ما في أقصى القلب ونُقرّبه منّا إلى أبعد حدّ، ثم نكنشف فجأة أنّه يحتاج إلى سؤالنا ليعرف ما بنا، نشعر بهزّة شكّ مخيفة، وبردّة فعل داخليّة عنيفة: “إذا كان الشريك في حاجة إلى شرح، فمن الواضح أنّه لا يستحق ذلك الشّرح”!.
- الحب في أساسه يقوم على الوعد بالفهم من غير كلام!. يعيد “بوتون” الأمر إلى “طفولتنا المبكّرة: الوعد بالفهم من غير كلام!. لا نحتاج إلى تقديم أي شرح عندما نكون في أرحام أمّهاتنا!. تجري تلبية حاجاتنا كلّها. المساعدة التي تلزمنا تأتينا من تلقاء نفسها”!. المسألة ليست تشابهًا أو مشاركة في الحروف، الأمر أبعد وأعمق، فكّر وستصل: الرَّحِم و… الرَّحْمَة!.