|


فهد عافت
إنّه دوستويفسكي!
2021-12-18
- نحن أمام عمل شرّير، بل وشيطاني بِدَوِيٍّ أقوى ممّا يحمله معنى الكلمة!. والرّاعبُ في الأمر أنّه لـ “دوستويفسكي”، الرّوائي الأعظم على مرّ التاريخ وهو ما يتّفق عليه، ويُقرّ به، معظم الكُتّاب والقرّاء فيما أظن!. الروائي وكاتب القصص الذي يحفر عميقًا، عميقًا جدًّا؛ وإلى أبعد حدّ، في النّفس البشريّة، كاشفًا أكثر أعماقها ظُلمةً، بِرِقَّة مُفْزِعة، وبساطة مُوحِشَة، وجَمَال مُخِيف!.
- لم يَدْعُ كاتبٌ إلى الخير؛ هازئًا به!، كما لم يَنْهَ كاتبٌ عن الشَّرِّ؛ مُمَجِّدًا له، مثلما فعل “دوستويفسكي”!. حتّى “نيتشه” يبدو لطيفًا فيما لو تمّت المُقارَنَة!. إنّه كاشف “الإرادة” الإنسانيّة بكل ما لها وما عليها، الغائص في أعماق أعماق أعماقها، بتمكّن وإيمان أعجب من بعضهما!. حتى “شوبنهاور” الذي أقام فلسفته كلّها على الإرادة، يبدو أقلّ إيمانًا بها فيما لو تمّتْ المُقارَنَة!.
- في رواية “في قبوي”، يصل “دوستويفسكي” الذّروة من هذا كلّه!. حيث الأسئلة التي تُرْهِقنا من أمرنا عُسْرًا!. رواية لا يجد “بطلها” شرفًا أعلى شأنًا من سماع صرخاتنا وصياحنا في وجهه!، وفي وجه اعترافاته التي تكشف خبايانا!، وخبايا الإنسان في كل زمان ومكان!. رواية تشعر أن “بطلها” كتب فيها اعترافاته وذكرياته، وضمّنها أفكاره ومعتقداته، وشحنها بآرائه، ليس له من هدف سوى إثارة شِجَار، يستفزّنا جميعًا على حَمْلِه وإلقائه من النّافذة!.
- عمل روائي حاول، وبنجاح مُرَوِّع؛ هَلَعه يصيب بالرّجفة، استخدام العقل بكلّ ما فيه من طاقة وما له من قدرات، للانقلاب على العقل نفسه!. “اسمعوا يا سادتي، إنّ العقل شيء ممتاز ورائع. ذلك أمر لا يُمكن جحوده، ولكن العقل هو العقل، وهو لا يُرْضِي في الإنسان إلّا مَلَكَة التّفكير العقلي، أمّا الرّغبة فهي تعبير عن مجموع الحياة، أي عن الحياة الإنسانيّة كلّها، بما فيها العقل ووَسَاوِسه!. ورغم أنّ حياتنا في تعبيرها عن نفسها على هذا النّحو، تكتسي في كثير من الأحيان مظهرًا رديئًا جدًّا، فذلك لا ينفي أنها الحياة، لا استخراج الجذْر التّربيعي”!.
- الإنسان في رواية “ في قبوي” ليس إلّا الإرادة!. والإرادة ضدّ العقل وضدّ العِلْم!. يقول قائل: لكن العقل يُحقِّق العدل والخير، والعِلْم يُحقِّق المصلحة. ويمدّ بطل رواية “في قبوي” لسانه هازئًا، مؤكِّدًا، أنّ الإنسان، ضدّ الخير والعدل وضدّ المنافع والمصالح الشخصيّة والعامّة، فيما لو مَسَّتْ كل هذه الأمور “التّافهة!” إرادته!. والأدهى أنّها تمسّ تلك الإرادة وتقلِّص من فضاءاتها على طول الخطّ!. لذلك فالإنسان، في عمق عمقه، ضدّ العقل والعِلْم والخير والعدْل وضدّ حتى مصلحته الشّخصيّة، وهو مع التّخريب، والهدم والفوضى، وضدّ كلّ ما هو سَوِيّ!.
- حسنًا، هو ليس ضد العقل والمنطق ولا مع التخريب والفوضى دائمًا وعلى طول الخطّ، لكنه كذلك “أحيانًا”، وهذه الـ “أحيانًا” هي أهم ما فيه!. لأنّ في ذلك، في ذلك فقط!، يمكن له إثبات بقاء إرادته حيّة وقويّة!. والرّاعب في هذه الرّواية، هي أنها جاءت لتؤكّد أنّ هذه الـ “أحيانًا” مسألة مُنْقَضِيَة؛ محسومة ولا جدال فيها!. وأنّ كلّ نفسِ تحمل في ذاتها قَبْوَها!.
- تكشف رواية “في قبوي” كم هو الإنسان مُوارِب ومُتَمَلِّص!. وأنّه كذلك ليس لأنّ هدفه رسم طريقٍ ما، بل العكس تمامًا!. هو كذلك لأنه “محكوم عليه” بضرورة رسم طريق ما!. إنّه لا يكتشف نفسه إلا عبر إرادته، وأنّ إرادته لا تتبدّى إلا برفضه للأشياء “المحكوم عليه” بها!. وبما أنّه محكوم بالعقل والحسابات، فإنّه لا يُمكن له اكتشاف نفسه، وتأكيد وجوده واستحضار قيمته، دون رفضه للعقل وللحسابات، والعمل ضدّهما، مهما أضرّ ذلك الرّفض، والعمل المضادّ، به وبمصلحته: “هكذا خُلِقَ، ولهذا رُكِّب”!.
- الإنسان السّويّ غبيّ: “إنني أحسدُ ذلك الإنسان. لستُ أُنكر أنّه غبيّ!، ولكن ما أدراكم؟ لعلّ الإنسان السّويّ يجب أنْ يكون غبيًّا”!. “ أحلف لكم بأغلظ الأيمان أيّها السّادة، أنّ الإسراف في إدراك الأشياء والشعور بها: مَرَض، مَرَض حقيقي، مَرَض كامِل!. إنّ إدراكًا عاديًّا أكثر من كاف من أجل حاجات الإنسان اليوميّة. إنّ نصف الإدراك أو رُبْع الإدراك،..، أكثر من كاف، ولا سيما إذا كان هذا المخلوق قد أوتي سُوء الحَظّ”!.
- “صحيح أنّ الإنسان لا يهتم إلّا بالسّعي وراء معادلة “2*2=4”، وهو في سعيه وراءها يجتاز محيطات ويُعرِّض حياته لمخاطر، ولكنّني أحلف لكم بأنّه يخاف من الوصول إليها، ويتهيَّب إدراكها إدراكًا واقعيًّا، ذلك أنّه يحسّ أنّه متى ما وصل إليها؛ لم يبقَ له شيء يعمله”!.
- إنّ الوصول إلى الغاية والهدف ليس بُغيَة إنسانيّة!. ففي الوصول التّام إلى أي غاية وفي التحقيق النهائي لأي هدف، لا نتيجة تخرج عن هذين الاحتمالين: نهايته أو تدجينه!. هي كذلك مهما كان الهدف خيّرًا، والغاية نبيلة!. “الإنسان كائن مُتقلِّب الرّأي، وربما كان كلاعب الشّطرنج، لا يُحبّ إلّا العمل نفسه، لا الهدف الذي يجب بلوغه”!. “الإنسان يخشى بغريزته أنْ يبلغ الهدف وأنْ يُتِمّ الصّرْح الذي يبنيه”!. الصّرح؟! “ لعلّ الإنسان يحلو له أنْ يبنيه لا أنْ يعيش فيه!، ولعلّه مستعد لأن يتركه للحيوانات الدّاجِنَة: للنّمل، للشِّيَاه…الخ”!.
- لإثبات هذا، يمضي بطل رواية “في قبوي” إلى النهاية، متحدّيًا بصفعات مُوجعة، دون اهتمام برفض أو عويل أحد، أيًّا كان: “سأمضي إلى النهاية، فإنما أنا أمسكتُ القلم لهذا الغرض”!. وعلى من لم تُعجبه حكاية أنّ الإنسان السّويّ ليس إلّا غبيًّا، تلقّي هذه الصفعة الجديدة: “إذا لم يكن الإنسان غبيًّا، فهو على الأقلّ: عَاقّ عقوقًا فظيعًا، عقوقًا خارِقًا!. بل إنني لأعتقد أنّ خَيْر تعريف يُعرَّف به الإنسان، هو التعريف التالي: كائن يمشي على قدمين وعاقّ”!. وأنتَ إنْ أكملتَ الرواية، فستجد أنّ هذا ليس الأسوأ ولا أكثر الآفات!. دائمًا؛ هناك ما هو أسوأ!.
- الخلاصة: “في قبوي” رواية، “تضع يديها على خاصرتها، وتعترض طريقنا”، متحدّيَةً كل منطق، بل وكلّ ما نظنّه فاتنًا وجميلًا!. والمصيبة أنها تفعل ذلك بمنطق، وبفتنة وجمال!. يا الله..، كم في هذه الرّواية من عناد ومن وقاحة، ومن كذب؟!، وكم في عنادها من سلاسة وفي وقاحتها من التماس عطف ونُشدَان رِضا!، وكم في كذبها من صدق؟!. إنّه “دوستويفسكي”!.
- ولأنّه “دوستويفسكي”، فإنّه يمكن للرّواية أنْ تُقرأ بطريقة مُختلفة تمامًا، وأنْ يُنظر إليها من زاوية مُغايرة بالمَرَّة، شكلًا ومضمونًا، عن كل هذا الذي بين أيديكم الآن!.