|


فهد عافت
دوستويفسكي والمتنبّي!
2021-12-19
- في نهاية حديث الأمس، قلت لكم:.. ولأنّه “دوستويفسكي”، فإنّه يمكن للرّواية أنْ تُقرأ بطريقة مُختلفة تمامًا، وأنْ يُنظر إليها من زاوية مُغايرة بالمَرَّة، شكلًا ومضمونًا!.
من ناحية الشّكل، لا يمكن إلّا تأكيد الشهادة لدوستويفسكي بالعبقرية وتجاوز الزمن. طبيعة السّرد في رواية “في قبوي” قافزة، بما يشبه الجنون، ومتجاوزة لزمنها، وكأنّها كُتِبَت بالأمس، أو اليوم، بل وكأنّها ستُكتب غدًا، وتؤسّس لمناخ روائي جديد!.
- فماذا عن المضمون؟! وكيف يمكن رؤيته من زاوية مغايرة تمامًا؟! إليكم النظرة الأُخرى:
- تتحدّث رواية “في قبوي” عن الفنّان المُبدع!، أعني؛ بالإمكان النظر إليها من هذه الزاوية!. وليكن هذا الفنّان شاعرًا!. وحين نقول شاعرًا، ترتسم صورة المتنبّي!.
- بطل روايتنا مثل المتنبّي تمامًا. لا شيء يُرضيه!. لذلك يسبح في خيالات أدبية فاتنة ورائعة وجميلة، ومن خلالها، كما يقول بطل الرواية حرفيًّا: “كنتُ عندئذٍ أرى نفسي مالئ الدّنيا، وشاغل النّاس!، أكاد أمتطي جوادًا أبيض، وعلى رأسي إكليل من الغار”!.
- في الحياة؛ قد يكتفي الفنّان المُبدع بلعب دَوْر ثانوي، لكنه في فنّه وأدبه، وبحكم أنّه، مثل بطل روايتنا، يدّخر في جعبته “دائمًا، طريقةً نبيلةً وأسلوبًا رفيعًا في مواجهة الأشياء والنّظر إلى الأمور”!، فإنّه لا يمكن له قبول لعب الدّوْر الثانوي!. إنه البطل ومُرتكز الأحداث والكون والحياة: “ لا أُريد حتى أنْ أُفكِّر في دَوْر ثانوي. ولعلّ هذا هو السّبب في أنني كنتُ في الحياة الواقعيّة أكتفي بهذا الدَّوْر الثّانوي هادئًا كل الهدوء”!. أمّا حين يُفكِّر ويتأمّل ويُبدع فـ: “إمّا أنْ أكون بطلًا وإمّا أنْ لا أكون شيئًا!، فلا وَسَطَ في نظري!، وذلك بعينه هو ما ضيّعني”!. بالله عليكم، ألا يُمكن تخيّل مثل هذا الكلام على لسان المتنبّي، بل وكلّ مبدع؟!.
- بطل رواية “في قبوي” إذن، ليس سوى فنّان!، خُلِق ليعترض، وليتناقض حتى مع نفسه!، في سبيل، وبسبب، اندفاعاته غير محسوبة العواقب نحو الجَمَال والرّوعة!. يقبل أن تُؤرقه وتُقلقه هذه التناقضات ليل نهار: “على قلقٍ كأنّ الرّيح تحتي… أُوَجِّهُها جَنوباً أَو شَمالًا”!. بل ويشعر بامتنان لهذه التناقضات على ما تسببه له من أرَقٍ، لأنّه عبر هذه التناقضات والتّضادّات ومن خلالها، يشعر بالقوّة المُحَرِضَة للإنجاز، لقول ما لَم يُقَل بعد: “… والقائلِ القول: لمْ يُتْرَكْ ولَمْ يُقَلِ”!، شأنه شأن كل فنان مبدع، يتلذّذ ويستمتع، منتشيًا بالحياة، “بسبب ما تُظهره من تضادّ وتناقض هما أشبه بتوابل تجعل للطّعام مذاقًا شهيًّا!. إنّ هذه التّوابِل تتألّف من تناقضات وتباريح وتحليلات مُوجِعة وأليمة”!.
- أَوَلَيْسَتْ هذه هي حالة الفنّان دائمًا: ينعزل أطول فترة ممكنة، يحلم ويفكِّر ويتأمّل ويَخُطّ. ثمّ إنّه بعد ذلك يخرج بقلبٍ يصدح: “أُحبّ أنْ أُعانِق الإنسانيّة بأسرها”!. وما هي إلا دقائق، ساعات، وما أن يخرج من “قَبْوِهِ” إلى الناس، حتى، ويا للأسف، يعدل عن رغبته في ضمّ الإنسانيّة كلّها بين ذراعيه!. لقد قضى بطل رواية “في قبوي” حياته على هذا النّحو!.
- حاولت الرّواية منذ البدء، مخاتلتنا، بطرح هذا السؤال على لسان بطلها: “من ذا الذي يُمْكِن أنْ يتباهى أيّها السّادة بأمراضه، وأنْ يتّخذها سبيلًا إلى التّفاخر”؟!. الجواب الذي لا أرى أصحّ ولا أدقّ منه: الشّاعر.. الشاعر!. أحفظ لـ”إميل سيوران” هذه الشّذرة: “عن مريضٍ: فِيمَ آلامي؟ لستُ شاعرًا فأُقصّدُها أو أُفاخِر بها”!.
- نعم، تحمل رواية “في قبوي” ضمن ما تحمل، رسالة الفنّ والأدب وأهميّتهما، مُقابِل ما يمكن للعِلْم تقديمه من منافع، قد تُصيب الإنسانيّة بأضرار بالغة فيما لو أُزيحت الفنون والآداب من الطّريق، وخَلَت السّاحة للعقل والعلوم والمنطق والمعادلات الريّاضيّة فقط:
-”..، فإذا استطعنا في الواقع أنْ نكتشف مُعادَلَة جميع رغباتنا، وجميع نزواتنا، أي إذا استطعنا أنْ نكشف المصدر الذي تنبع منه، والقوانين التي تحكم ظهورها، وإذا عرفنا كيف تتكاثر وتتوالد، وما الأهداف التي تسعى إليها في هذه الحالات أو تلك، الخ، كان من الجائز أنْ يَكفّ الإنسان عندئذٍ فورًا عن أنْ يُريد!. وليس هذا جائزًا فحسب، بل هو مُحَقَّق ومُؤكَّد أيضًا!. فأيّ لذّةٍ يُمكن أنْ يجدها الإنسان في أنْ لا يُريد إلّا وفقًا لجدْوَل حساب؟! بل ليس هذا كلّ شيء أيضًا: إنّ الإنسان سيسقط عندئذٍ توًّا إلى صَفّ مسمار في آلَة”!.
- هذا، ويمكن لقراءات مُغايرة كثيرة، أن تستثمر طاقاتها بنجاح عبر هذه الرواية العجيبة!. قلت لكم من قبل يا أحبّة:.. إنه دوستويفسكي!.