|


فهد عافت
دوستويفسكي العرب!
2021-12-20
ـ ليس صحيحًا دائمًا، بل لعلّه ليس صحيحًا بالمرّة، أنّ الفنّ ضد الواقع!. الحكاية وما فيها أنّ الفنّ يتحرّك في مسارات متداخلة، أحد هذه المسارات: الرّغبة في تغيير الواقع، في تغييره دائمًا، لأنه يرى بعينه البصيرة أنّ ثبات الواقع يجعل منه وقوعًا لا واقعًا!. وأنّ الحل الوحيد يكمن في تغييره وتجديده وبعث الحياة فيه. يستحيل على الفن أنْ يترك الأمور على ما هي عليه!. الفنّ ضد واقع وحيد مؤكّد هو الموت!. وهو فيما عدا ذلك ليس أبدًا ضدّ الواقع!.
ـ مسار الفنّ الثاني: قراءة الواقع قراءة ليست جديدة فقط، ولكن مُكثَّفة، لا تستثني من مُعطياته شيئًا، ولا تتجنّب رؤيته من كل زاوية ممكنة!. هو بذلك، ولذلك، يكشف عن طبقات ومستويات متعاقبة ومتداخلة؛ متلاحقة ومتلاقِحَة، فيُحمِّل حكاية واحدة كل الحكايات، وبرسم وجه واحد، تُرسَم كل الوجوه!. من الطبيعي إذن أنّ ثمّة ما هو شبحي، سيكون نتيجة أي عمل جدير بكلمة أدبي أو فنّي!.
ـ والسّحر الفنّي يتجلّى في بقاء بصمة تفرّد كل حكاية؛ وملامح كل وجه؛ وخصوصيّة كل رائحة!. يتجلّى في التّوقيع!. ليست إذن على سبيل الصّدفة أن اشتُقَّت الكلمات الثلاث من نفس الحروف: وقوع.. واقع.. توقيع!.
ـ الخيال نفسه واقع!. يتخيّل الشاعر لَمْع السّيوف كثغر حبيبته المتبسِّم، لأنّ السيف واقع، والثّغر واقع، واللّمع واقع، والتبسّم واقع!. بعد أكثر من ألف عام يأتي من أحفاد الشاعر شاعر يكتب: “عيناك غابتا نخيل..”، لأنّ العيون واقع، والغابة واقع، والنخيل واقع!. الخيال، وعبر النكهة والأسلوب، لم يفعل أكثر من سحب الواقع إلى التّوقيع وإنقاذه من الوقوع!.
ـ لنرجع الآن، ونتفحّص أكثر ذلك المضمون الذي وصفناه بـ “الشّبحي”!. ونبدأ من الصفر: هل يمكن لك تخيّل شكل شبح، أيًّا كان هذا الشّبح، إلّا من خلال أدوات طبيعيّة وتجربة واقعيّة؟! الجواب لا!. إنْ نحن تخيّلنا الشبح بعيون مستطيلة أو مثلّثة، فلأن العيون واقع والمستطيل واقع وكذلك المُثلّث!. نحن فقط دمجنا موجود بموجود، وقمنا بعجن واقعٍ بواقعٍ!. والأمر هكذا على طول الخطّ!.
ـ لحظة: لقد بدأنا من الصّفر!. ما معنى ذلك؟! معناه أننا بدأنا من اللحظة “الشّبحيّة” المسكونة بالواقع والخيال معًا!. ما هو الصّفر؟! هو الشيء واللا شيء معًا!. هو الموجود والمعدوم في نفس اللحظة!. يبدو أنّ الفنّ مسألة “صفريّة”!، أو أنّ له من روح الصفر نصيب وافر!. هو مثل الصفر: الشيء واللا شيء معًا في نفس اللحظة وعلى الدّوام!.
ـ في اليومين الماضيين، تحدّثنا عن دوستويفسكي، عن روايته “في قبوي” تحديدًا. صباح الأحد؛ قرأناها بشكل، وصباح الإثنين قرأناها بشكل آخَر تمامًا!. انتقلتْ من الشّرّ إلى الفنّ بِهَوَادَة طِين فخار؛ غضّ ولَيِّن وطريّ!. فمن أسرار العمل الإبداعي الجمع بين الرّخاوة والتّماسك!.
ـ ومثلما نَقَلَنَا دوستويفسكي بالأمس إلى المتنبّي، ينقلنا اليوم إلى “داوود عبد السّيّد”، المخرج السينمائي الذي لا أُسمّيه إلّا “دوستويفسكي السينما العربيّة”!.
ـ في كلّ أفلام “داوود عبد السّيّد” يتم ضغط الواقع ضغطًا مُفجِّرًا لكل طاقات الخيال!. وجمع وتكثيف كل ما حدث لاستدراج ما لم يحدث بعد في نبوءة فنيّة، ممزوجة بطموح ورغبة وإيمان بإمكانيّة تغيير هذا الذي لم يحدث بعد!.
ـ بلغ “داوود عبد السّيّد” الشهرة في فيلمه “الكيت كات”، لكنه بلغ الذّروة في فيلمه “أرض الخوف”، الفيلم الذي يمكن تأمّله على ثلاثة مستويات متداخلة على الأقل: البوليسي التّشويقي، والسياسي الآيدلوجي، والدّيني التّأمّلي!.