|


أحمد الحامد
محلل
2018-06-02

في يوم من أيام الإذاعة وتحديدًا في التسعينيات الميلادية، أتى شاب في الثلاثينيات من عمره، جلس على الكرسي القريب من مكتبي، تبادلنا التحية وعرّفنا أنفسنا على بعض، قال إنه ينتظر لقاء مدير الإذاعة، سألته عن تخصصه فأجاب بأنه محلل اقتصادي.



كانت هذه المرة الأولى التي أسمع بها كلمة "محلل"، قال إنه يشرح للمستمع أو القارئ عن وضع الأسواق وعن حالتها وأسباب المتغيرات والتوقعات القادمة، حينها شعرت بأنه رجل يكذب في سبيل الحصول على وظيفة، أحيانًا لا ألوم من يفعل ذلك، الفقر مذل وقاتل، ثم بدأ يسهب في الحديث عن تخصصه وعن الدور الذي يقوم به المحلل، كان يتحدث معي وتعابير وجهه وحركات يديه كأنها تقول لي أرجوك اقتنع بما أقوله لك، أو صدق على أقل تقدير بعض ما أقول! دخل إلى مكتب مدير الإذاعة وخرج بعد ربع ساعة تقريبًا، رفع يده ملوحًا لي بالسلام وخرج، بعدها بدقائق قليلة خرج المدير من مكتبه وقال بصوت يسمعه الجميع: تخيلوا من كان عندي في المكتب، رجل جاء يبحث عن وظيفة اسمها محلل، ثم تساءل مستغربًا محلل؟ كنت سأقول له اذهب وحلل مستوى السكر الذي بدمك، ثم قال شكرته وقلت له لا أحتاج لما تقول، بعد سنوات قليلة بدأت أشاهد على قنوات التلفزيون بعض ضيوف البرامج تحت مسمى محلل، محلل سياسي، محلل رياضي.. محلل اقتصادي..



ثم انتشر هذا الاسم في كل مكان، حتى أصبحت أشاهد بعض أصدقائي من غير المختصين وليست لديهم الخبرة على شاشات التلفزيون كمحللين في تخصص ما، كنت أضحك كثيرًا كلما شاهدت أحدهم وهو يسهب في الحديث محاولًا تقمص دور الخبير العارف، غير أنني أحيانًا كنت أتذكر ذلك الشاب الذي زار الإذاعة قبل سنوات وحاول أن يعمل بتخصصه وخبرته وقوبل بالرفض بسبب مسماه الوظيفي غير المعروف وغير المعتاد..



وقد لا ألوم المدير، فالمحلل الذي جاء كان قد جاء قبل وقته، وكل من يأتي قبل وقته يدفع ضريبة الزمن، الكثير من الأفكار سبقت زمنها، أو سبقت عقول المحيطين بزمنها، بعضهم جاؤوا قبل وقتهم، فلم يفهمهم أحد ولم يرحمهم الزمن، لا أعلم مصير ذلك الرجل المحلل، لكنني لم أشاهده يومًا على منصة إعلامية، مثله مثل الكثير من المختصين الذين لا يسمع صوتهم.