قبل خمس سنوات تقريبًا، حضرت مؤتمرًا إعلاميًّا حاشدًا في مدينة الباحة، ازدحم بثلة من الوجوه التلفزيونية وثلة من الأكاديميين المتخصصين في الإعلام، وثلة من الصحفيين السعوديين والعرب.
كان كلامهم على مدار يومين مترادفين لا يخرج عن القضية إياها.. الصحافة الورقية تمشي إلى الهاوية، والصحافة الإلكترونية تتمدد كما تفعل الأمواج المتلاطمة على أتربة السواحل في حركة مد وجزر هائجة..
قالوا وأكدوا ورددوا وأقسموا أيمانًا مغلظة بأن صحافة الورق دخلت مرحلة الوفاة السريرية.. دبي المدينة الإماراتية التي يولي أصحاب الأحلام وجوههم شطرها، هي الأخرى استضافت الأيام الماضية مؤتمرها الإعلامي السنوي.. تزدحم القاعات بالمئات من الإعلاميين والإعلاميات.. يدور رحى النقاش والمناقشات والمداخلات.. تتقلص مساحة الدائرة.. هي ذات القضية التي حُكِم عليها ألا يصاب متحدثوها وسامعوها بالملل.. هذه مصائرها وأقدارها..
قرأت بحكم الاهتمام الكثير من أوراق العمل والمحاضرات والندوات التي يقدمها زملاء المهنة هناك.. لا أتوقف عند التحديات التي يصطدم بها الإعلام.. فقط هي القضية التي سمعتها من ألسنتهم في الباحة، أجدها تتزين بذات المكياج وجدائل الشعر وذات العطور والإكسسوارات.. يعرضون المشكلة لكنهم لا يقدمون الحلول والبدائل.. الصحافة الورقية ستنتهي والصحافة الإلكترونية ستحل مكانها..
وهذه يا سيدي كل الحكاية.. هناك أسئلة سطحية تتقاذفها الريح وإجاباتها في غياهب التجاهل.. أين هي التجربة الصحفية الإلكترونية المبهرة الناجحة.. اعرضوا بضاعتكم.. في السعودية مثلًا منحت وزارة الإعلام مئات الرخص لصحف تسمى “الإلكترونية”، وتعج شاشات الكمبيوترات بأعداد مهولة منها.. تناسوا أو تجاهلوا صحيفة سبق.. لا تجعلوها حجة لكم لأنها حجة عليكم.. باستثناء سبق ليس هناك صحيفة إلكترونية قوية ونافذة وشعبية ومتينة.. جميعها تجارب خجولة تفتقد الحد الأدنى من الحبكة الصحفية المهنية الاعتيادية..
لكل صحيفة ورقية جبهة إلكترونية، وربما تتحول يومًا هذه الصحف جميعها ـ مجبرة لا بطلة ـ إلى العالم الآخر، لكن الحديث عن صحافة إلكترونية تشد الأنظار وتأخذ المكان الذي أشغلتونا به، إنما هو ضرب من آيات ومحاضرات التنظير التي ليس لها وجود في واقعنا.. تشعر الصحف بالخطر الداهم، وتستشعر المستقبل بوجل وتوجس وخوف، وتعرف يقينا أن عاصفة التغيير ستهب عليها كما هبت على كل مناحي حياتنا وتعاملاتنا..
الأسبوع الماضي نشرنا في هذه الصفحة تقريرًا موسعًا عن أرقام بيع الصحف الورقية في ألمانيا وأمريكا واليابان.. هناك حيث العالم التقني بكل جبروته وكبريائه وأسلحته وأدواته، تباع الصحف الورقية بالملايين.. والتغيير فعلًا قادم.. في الباحة ودبي أطالوا الحديث عن الموتى وتناسوا أن الحياة أحق وأولى..!!