صوت عبد الكريم عبد القادر عجيب، فكّرت في أمره كثيرًا، وفي الأخير توصّلت إلى ما أظنه سرّه الأبدي: إنه مسافة بين الحضور والنسيان!. كل صفائه مبحوح، وكل بحّاته صافية!. صوت ما إنْ يمتد بين حرفٍ وحرفٍ، بين كلمةٍ وكلمةٍ، حتى تشعر أنك في لقاءٍ وفراقٍ معًا، في ما بعد حضور الحكاية بقليل وإلى ما قبل نسيانها بأقل، رحلة ما بين الذكرى والنسيان، خفيفة لا تُثقلها الذكرى، ومُثقَلَة لا يُبخّرها النسيان!. صوت عبد الكريم عبد القادر سفر في إقامة وإقامة في سفر!.
ـ موسيقى عبد الرب إدريس عجيبة هي الأخرى، تحضر من كل الأماكِن، ومن كل مكان تُحضِر معها تُربةً ونبتةً ولفحة شمس وقِطعةً من قمر أو هزيعًا من ليل!. حين يتجلّى عبد الرب إدريس في لحن فإنه يؤثث المكان بلمسة كوكبيّة، دوّارة وجامعة، تتناغم فيها الصحراء مع البحر، لها رشاقة أهل الجبال، ورائحة خبز الزُّراع من أهل الأنهار!، ولها من غنج بنات المدينة نصيب!.
ـ بَقِيَتْ الكلمات. وقد حضر بدر بن عبد المحسن بجلالة شعره!. وزاد الكيل: حضر هذه المرّة ليكتب أحاسيس لم يُكتب عنها من قبل تقريبًا، وما كُتب لا يصل إليها حِرفةً وعبقًا ودرايةً بأدق الأسرار، وقدرةً على الالتقاط العبقري، فكانت: "يطري عليه الوله واطري على باله"!.
ـ حالة لا يمكن التقاطها دون نبوغ نضّاح: عاشقة تشكو لمن يعشقها عن ثالثٍ هي تعشقه!. الشاعر هنا هو الطرف الثالث في حكاية هي من طرفين فقط!. من يقدر أنْ يكتب مثل هذا غير البدر؟!. من يقدر على التقاط أدق تفاصيل مشاعر وأحاسيس رجل يرى نفسه في صلب الحكاية، ولا تراه الحكاية، ولا أبطالها، غير وسيط لبث الشكوى؟!.
ـ شعريًّا، خطف البيت الأخير من القصيدة كل الأضواء، كان بيتًا شعريًّا عظيمًا، ويستأهل الخلود، وهو من الأبيات التي أُسميها: "الأبيات الحُوتيّة"!، وهي تسمية اخترعتها من عندي، الفرق بينها وبين ما يسمّى "بيت القصيدة" أنّ بيت القصيدة قد يشع ويظهر دون أن يُلغي بحضوره بقية الأبيات، بينما ما أسميه بالبيت الحوتي، نسبةً إلى الحوت، هو البيت الذي لفرط جبروته يلتهم بقية الأبيات ويُلغي القصيدة أو يكاد باختصارها فيه لشدة بهائه!.
الأبيات الحوتيّة ظالمة وبطّاشة، وقد قُفِلَت القصيدة بواحدٍ من أكثر الأبيات الحوتيّة قوّةً وبطشًا:
"لو الشجر له نصيب فـ.. بارد ظلاله...
ما حَرّق القيظ جفني وأنت فـ.. أهدابي!".
ـ بيت في المنتصف تقريبًا، تم ظُلمه، يتدفق أحاسيس تأتي من أعمق نقطة في النفس البشرية:
"كل ما شكى من عناه وهَمّ غرباله...
أقول: لعلّ به جرحٍ من أسبابي"!.
يا لخصوبة المعنى وصدقه وحرقته، كم يكشف برهافة عن أنانيّة العاشق!، تلك التي لا يمكن لها أن تتكشف في غير لحظة انهزام، ويأس مُطبِق، بعد انتفاء كل الأعذار والمبررات والأسباب، فالقُرب موجود والوصل متبوع والمعرفة قائمة والثقة حاضرة، ومع ذلك: "طال الحكي ما لقيت الوصل في وصاله"!.