|


فهد عافت
الشيخ والبحر!
2018-03-13

أظن أن "أقصر" رواية طويلة، و"أصغر" رواية كبيرة، هي رائعة همنغوي الخالدة "الشيخ والبحر"!، حتى أنّ همنغوي نفسه لا يمكن له أنْ يُعَرّف اليوم بغيرها، أو بأكثر منها، يكفي أنْ تقول هو صاحب "الشيخ والبحر"، أي تعريف آخر ناقص، وليست الثرثرة الزائدة غير نقصان جمع إلى القُصُور غباء!.



ـ لكن لماذا أخَذَتْ "الشيخ والبحر" كل هذا المجد؟!، كيف تمكّنتْ وهي التي لصغر حجمها يمكن قراءتها ثلاث مرات في يوم واحد، من نول كل هذا الزخم، وكلّما تُرجمت إلى لغةٍ صارت منها، وصُنِّفت على أنها من أهم أعمالها؟!



ـ بحّار عجوز واصطاد سمكة، ثم ماذا؟!، لا شيء!.



ـ في هذا "اللا شيء" في "الشيء" الصغير أصلًا، يكمن السر!. لقد ملأ همنغوي هذا "اللا شيء" بالدنيا كلها، بعجائبها وكامل تحدّياتها!. أمّا الشيء الصغير الذي تدفّق منه كل هذا "اللا شيء"، فقد نقشه بفُرشاة رسّام ماهر، وبريشة شاعر بليغ، وبضوء مخرج سينمائي فذ!.



ـ أولًا، هذه رواية يُمكن أن تُقرأ كقصيدة، ليس لأنها متماسكة فحسب، ولا لأنها صغيرة جدًا فقط، ولا لأنها مكتوبة بلغة شعرية طبعًا!. لكن لأنها حالة من التوتّر السريع والمتدفِّق الذي لا يُمكن مقاومته، ولأنّ قراءة جزء منها لا يُسمِن ولا يُغني من جوع!، هي مثل قُرص الدواء، مُكثّف ومتعوب عليه، وربما جُلِبت مكوِّناته من أماكن متباعدة، وفي النهاية لا يُمكن غير ابتلاعه دُفْعَة واحدة!. وأعتذر للرواية عن وقاحة وصفي لها بقرص الدواء!.



ـ ثانيًا، لأنها تتشظّى!. يمكن لكل أحد أن يرى فيها نفسه بسهولة!. الشاعر بحّار والقصيدة سمكته، الكاتب وكلمته، الرسّام ولوحته، الموسيقي وجملته اللحنيّة، حتى التاجر وزبونه!. والرياضي وتحدّياته!. الإنسان عمومًا وحياته خصوصًا!.



ـ إنها الرواية الأكثر قدرةً على وضع الجندي مكان العاشق، والعاشق موضع الجندي المقاتل!. المسدس والكلمة، القذيفة والحضن، لا يتبادلان الأدوار فحسب، بل إن كلاً منهما وجه للآخر!.



ـ لقد أحب شيخ البحر سمكته على نحو عجيب، حتى أنه فكّر بمعنى الخطيئة ألف مرة ومن ألف زاوية، بدءًا من الخطيئة في قتلها وانتهاءً من الخطيئة في تركها للبحر، والعجيب الساحر أن همنغوي لم يكن بحاجة لغير عدد قليل من الكلمات لبث كل ذلك في النفس!.



ـ حسنًا، وماذا عن سمكة القرش الكبيرة التي تتبّعت الدم، ونهشت قطعةً من السمكة شَوَّهت به جمال المنظر؟!. أقول في نفسي: إنهم النّقّاد!، نُقّاد الصحافة تحديدًا!، وإنهم المتطفلون!، وإنهم العُذّال كذلك: "كان قِرْشًا كبير الحجم، وجسمه ملائماً للسباحة السريعة، وكان كل ما فيه جميلًا ما عدا فَكّيْه"!.