ـ في هذا العالم الذي بدا فيه أن الجميع صار يعرف الجميع، والكل يتواصل مع الكل، ثمّة خدعة تطلّ بلسانها هازئة: لا أحد يتواصل مع أحد، وجهلنا ما كنا نظن أننا نعرفه، ونكاد نكون في رحلة لنقل ما نتذكّره إلى بيت نسيان!، والخوف أن نصل بكومة الذكريات إلى بيت نسيانها، فلا نخرج منه؛ لأننا قد ننسى أنفسنا هناك أيضًا، ننسى أننا جئنا لتأثيث بيت نسيان بحكايات، ننسى أننا نسينا، فنصير جزءًا من أثاث لا يتذكر شيئًا، ولا يتذكّره أحد!.
ـ يبدأ الواحد منا، دخوله في عوالم السوشال ميديا، يقدّم شيئًا مما عنده، ينتظر ردّة فعل، تتمثّل بالمتابعة، لا شكل آخر أوضح من ذلك، يتابعنا عشرة أشخاص، نستمر، يزيد العدد، يصير مئة متابع، نستمر مع قليل من الحذر، لا يكاد يُرى ولا يستحق ذِكْرًا، يزيد العدد، يصير ألفًا، نستمر مع حذرٍ واضحٍ، حسبنا قدرتنا على إخفائه عن الآخرين، أمّا مع "وبيننا وبين" أنفسنا، فإننا نشعر به ولا مجال لإخفائه أو الهروب منه!.
ـ يزيد العدد، يقفز إلى مئة ألف وأكثر، فلا نعود نحن نحن!. نصير أو نحاول أن نصير على مقاس هذا العدد، نحتفي بالرقم، ونبدأ بالخوف عليه من ناحية، وبتدعيمه من ناحية أخرى!. ننسى الأفكار التي جئنا من أجلها، التي حضرنا لطرحها وللدفاع عنها ولمناقشتها، وتسيطر علينا فكرة وحيدة، أو أنها تقود بقية الأفكار، وهي فكرة العدد، نبدأ بنسيان الأخيلة والتأملات، وبالتراجع عن المواقف، لصالح الآلَة الحاسبة!. ويزيد العدد!.
ـ كم عدد متابعيك؟!، مليون!، يا لنجاحك في الاستقطاب، ويا لقوّة تأثيرك، لكن لحظة!، من منكم يتابع الآخر الآن؟!، هل حقًّا هم؟!، أم أنك أنتَ الذي صرت تتابعهم وتبحث عنهم؟!، لا تقول إلا ما يقولون، وترتعب يدك خوفًا من الضغط على زر صفّ كلمات ليست على هواهم؟!، دعك من الشكل الخارجي السطحي لعدد من تتابع ومن يتابعك، وادخل في العميق، في الخفيّ من الروح، تعرف حقيقتك!.
ـ أنت مجرّد رقم، طالما أنك لا تفكّر بغيره!. وليتك كنت رقمًا في معادلة فيزيائية، تحسب الضوء وتفهم حركة الكون، لا يا حبيبي، رقم في سوبر ماركت، لم نعد ندري من صاحبه ولا ماذا يبيع!.