في حكاية اليوم، محاولة لكشف الملتَبِس من أمر المقولة الشهيرة: "المعاني ملقاة على قارعة الطرق":
ـ الحكاية نفْسها، تمر على شاعرين، أمل دنقل ونزار قباني، يلتقي كل واحدٍ منهما لا بحبيبته هذه المرّة، ولكن بطفلتها!. الموضوع ذاته!، الخلفيّة ذاتها: حب، فراق، ثم صدفة لقاء جديدة، في مفارقة زمنية عجيبة: الرجل يكبر، بينما تصغر المرأة آخذةً شكل ابنتها!.
ـ يكتب دنقل:
لا تفرّي من يدي مختبئة..
خَبَتِ النار بجوف المدفأة!
أنا، لو تدرين، من كنتِ له..
طفلةً، لولا زمانٌ فَجَأة!
ـ يكتب نزار:
طالَعَني دربي بها مَرّةً..
ترفُّ كالفراشة الجامحة
طفولةٌ كَأنْ تبوح الرُّبى..
ومبسمٌ كأنه الفاتحة!.
ـ من الطينة ذاتها، يشكل كل شاعر حكاية خاصة تعمّ الدنيا حزنًا وحُسنًا، وأشياء أُخَر!. ذلك لأنّ ماء الموهبة مختلف؛ لأنّ بذرة الإبداع خاصة ومتفرّدة، ولأنّ حاضر كل حكاية، أيّ حكاية، تمر بأيّ واحدٍ منا، تُعجَن فينا: حاضرها يتشكل بشروط الماضي الخاص لكل واحدٍ منّا، وبالتالي فإنه ما مِن حكاية تُحكى مرّتين، لأنه ما مِنْ حكاية تحدث مرّتين أصلًا!.
ـ منذ البدء، يلتقط أمل دنقل الحكاية، بفعل أمر، يطلب وقف الحركة: "لا تفرّي"، لا يريد للفراق القديم أنْ يعود على هيئة اختباء: "لا تفرّي من يدي مُختَبِئة"!. ثم لا ينتهي البيت الأول إلا وقد حدّد الشاعر زاوية البوح وتداعيات الرؤية: "خَبَتِ النار بجوف المدفأة"!.
ـ يختار دنقل الانثيال، كاشفًا عن انهياره الشخصي، الطفلة ابنة الحبيبة تظهر في بقية المشاهد كخلفيّة، يكفيها أنها أوجدت الحنين إلى المرأة الأولى، والأنين على الرجل الأول، يصير حاضر القصيدة كله "كان يا ما كان":
"وهو في شُرْفَتِهِ مُرتقِبٌ..
وهي في شُبّاكها مُتّكِئة!
لم تكن تملك إلا طُهرها..
لم يكن يملك إلا مبدأه"!.
ـ نزار لا يفعل ذلك، الطفلة تظل في المشهد، تتسيّده، مع باقة ورد شاكرة للجينات الوراثية:
"وكيف هذا كان؟، قد أُورِثَتْ..
حتى رنين اللثغة الصادحة!
حتى انثيال الشعر!، حتى الفمِ ال..
مَلْموم!، حتى النظرة السارحة!"
ـ كلاهما، دنقل ونزار، اختار موسيقى سريعة كأنها "صدفة اللقاء"، ذات إيقاع مذبوح، وقافية راقصة: الهمزة عند دنقل تدق كأنها "صنوج" حفّت بآلة دفّ!. والحاء عند نزار: حرقة وحرارة وحنين وحب يكاد ينحرف!.
ـ لذلك تختلف النهايات، تنتهي قصيدة دنقل، بتهكميّة لا ترى في الحياة غير عبثيتها!، تهكميّة سوداء، لولا..!،..:
"إنما العُمر هباءٌ، من سوى..
طفلة مثلك تجلو صَدَأَه!"
ـ في حين تنتهي قصيدة نزار، بخلطة شبقٍ حاضرة يزركشها حنين مخادع:
"أخْذْتُها مُقبِّلًا، باكيًا..
أمَا بها من أُمّها رائحة"؟!