|


فهد عافت
دفاعًا عن الغموض!
2018-02-26

أوضح ما في الفن ضرورة أن يكون غامضًا!. ليس في جزءٍ منه فحسب، بل وهذا هو الأهم: بنسبة ولو قليلة في كلّ أجزائه، ليست بالضرورة نسبة متساوية، المهم أنها موجودة، والأهم أنها مُتناسقة، مُحَفِّزة ودالّة!.



ـ الحلوى المكشوفة مُضِرّة، للأطفال خاصةً: أمراض المَعِدَة للكبار فقط!. الحلوى المكشوفة تجعل الأطفال كبارًا في الصفة السّيّئة التي فيهم!. العمل الفنّي المكشوف مُضِرّ أيضاً، للكبار خاصةً، لكن لسبب مغاير، يكاد يكون نقيضًا:



ـ العمل الفني المكشوف يَحْرِم الكبار من القدرة على العودة إلى أنْ يكونوا أطفالًا!. يُبقي الكِبار على وقارهم، على ثقتهم المبالغ فيها دائمًا بفهمهم وبأنفسهم!، يحرمهم من الطفولة، من أطيب صفاتها: الفضول واللعب والشغب والدهشة!.



ـ الغموض الفني لا طلسمة ولا عشوائية ولا كيفما اتَّفَق!، لكنه الشفافيّة، مُعَتَّقةً مُقَطَّرَة!.



ـ وهي مسألة لا يُسيء لها أصحاب السطحيّة والجُمَل المُعلَّبة، بدءًا من الإخباريّ إلى الفضائحيّ!، بقدْر ما يسيء إليها فيض المُندّسين فيها، يُخْفون فيها، ومن خلالها، عجزهم وقصور مداركهم وضحالة مواهبهم!. تمامًا كما يندسّ قارئ الكف والوَدَع بين علماء الفَلَك، مستغلًا الشقّ اللغوي بين علم النجوم والتنجيم!.



ـ لكن كيف يكون الغموض هو الشفافيّة؟!. بسيطة: ما هو الشفّاف أصلًا يا أحبة القلب، إنه الكاشف لما وراءه، أليس كذلك؟!. رائع: وماذا إذا كان ما وراءه كاشفًا لما وراءه، وهكذا دواليك؟!.



ـ كل شفافٍ يأخذ من سابقه شيئًا، يمحوه ويضيف إليه في اللحظة ذاتها، تخيّل عشرة آلاف ورقة كل ورقة فيها تُظهر أسطرها، وتكشف أسطر الورقة التي تليها، نكون كقُرّاء أمام ورقة واحدة، كل سطر فيها، يحمل كلمة تشفّ عن ثانيةٍ، وهذه تشفّ عن ثالثةٍ، والثالثة عن رابعةٍ، إلى ما لا نهاية!. أوَ ليس هذا هو الغموض كله، لكن وفي الأصل أليست هذه هي الشفافيّة كلها؟!.



ـ الإبداع الحقيقي، الشغل الفنّي المتعوب عليه، والناتج دائمًا عن موهبة أصيلة، مصقولة، واثقة من صاحبها، موثوقٌ بها من قِبَلَه، سرّه ومَكْمنه في قدرة هذا الفنان المبدع على تشكيل فضاء كوني متناسق، لكل جزءٍ فيه جاذبيته ومغناطيسته وطبيعته الخاصة تُربةً وحركةً، والتي تنفتح خصوصيتها على عمومية حركة بقية الأجزاء، متناغمةً معها و من خلالها في الدوران!.



ـ وتظلّ “الموناليزا” المثال الفنّي الأكثر أحقيةً بالحضور هنا: الابتسامة ـ إن اتفقنا على أنها ابتسامة ـ تشفّ فتكشف عن مسرّات وأحزان لو أمكن عدّها لانتهى السحر!، السحر الذي يتجدد ويتعمق بفضل تكاتف بقيّة التفاصيل مع أعجب فَمٍ تم رسمه عبر التاريخ!.



ـ مليون رسّام يقدر اليوم على رسم الموناليزا، فأين سر دافنشي الخالد؟، هو في خلقه الفضاء الكوني المتناغِم بين الأجزاء وحركتها، الشعر، العيون، الصدر، اليدين، الأنف، الرداء، الكرسي، الخلفية بكل تفصيلةٍ من تفاصيلها، الطريق اللوني قبل الطريقة ومعها، الضوء، كل شيء مُلَتَفّ وجانبي، ومتناغم، نضّاح موسيقى!.