أحتفظ إلى اليوم بالمجلة المدرسية التي أصدرناها في الثانوية العامّة، وكسبت الجائزة على بقية المدارس، كان اسمها "ابن طفيل"، اسم ثانويتنا نفسها، بعض محرريها صار اليوم شهيرًا، يشغل فيصل حمدان اليوم منصب مدير إدارة العلاقات العامة بالهيئة الملكية في الجبيل، والاسم الآخر خلف الحربي أشهر من نار على علم في عالم الصحافة والكتابة الدراميّة الساخرة للتلفزيون!.
ـ كانت أيامًا حلوة، وكان لكلمة صحافة أُبّهة ووَهَج. ردّتني إليه الأيام القليلة الفائتة بحنين جذلتُ حتى لسذاجته!. ذلك لأنه وفي الأيام القليلة الفائتة، كوَّمَتِ الصُّدفة عند بابي، ثلاثة أعمال مؤثِّرة، دفعة واحدة: مقالة بين الاستغاثة والرثاء لأستاذنا الجليل خالد المالك، أحد أهم من قدروا على إعطاء كلمة "رئيس تحرير" معناها القيادي فعلًا، وفيلم المخرج البديع ستيفن سبيلبرغ "The Post”، وكتاب "دروس في الأخلاق" لأُمبرتو إيكو، الذي تناول في أحد أهم فصوله إشكاليات العمل الصحفي!.
ـ أستاذنا القدير، القدير حقًّا، خالد المالك، طرح المشكلة، بعاطفة موجعة الاستغاثة!، بدأها بتقديم نفسه كتاريخ من الحبر: "قضيت ما مضى من عمري كله في بلاط صاحبة الجلالة"، ثم بتأكيد اعتزاز: "كنت ولا أزال أرى فيها نفسي وسعادتي مهما أصابني..."، عاطفة ذهبت إلى المنعطف بِوَصَبٍ جيّاش: "نقص حاد في موارد جميع الصحف"!. وأخيرًا، نداء استغاثة، يشبه الاستجداء، لولا تمسّكه بآخر قطرة كبرياء، حَاوَلَتْ، دون جدوى كبيرة، تعطير الاستجداء برائحة تحذير وطني: "الأمر يحتاج إلى تدخل سريع من أعلى سلطة في الدولة"!.
ـ كتاب أُمبرتو إيكو، ورغم أنه سابق كثيرًا على مقالة أستاذنا خالد المالك، إلا أنه يشرح لماذا ضاقت الحِيَل على الصحافة الورقيّة، والغريب أنه يكاد يوجّه كلامه أيضًا إلى السلطة: "السادة أعضاء مجلس الشيوخ..."!. يضرب بعد ذلك بقوّة على الفرق بين الخبر والتعليق!. يذهب الكلام ويأتي، لنكتشف أنه بالكاد يمكن اعتبار النشرة الجوية، الحالة التي يتم فيها الفصل الدقيق بين الخبر والتعليق!.
ـ يحكي إيكو بفطنة، عن عدم قدرة الصحافة الورقية على مواجهة مستجدات الأمور. لم تُخبِّئ الصحافة من الحِيَل ما يكفي: "قديمًا، كانت الصحف هي أول من يعطي الأخبار، تأتي بعد ذلك الإصدارات الأخرى لتُعمّق القضايا" كانت الصحافة برقيّة تنتهي بـ: (انظر ما يلي)،..صارت رسالةً تنتهي بـ: (انظر ما يلي، أو ربما ما سبق)!، هذه الزيادة الأخيرة كانت كارثيّة!.
ـ تغيّرات كثيرة، والأهم أنها جذرية، طرأت، ولم تنتبه لها الصحافة، كانت مشغولةً ربما بالتلصص على كل أخبار الدنيا، فيما عدا أخبارها هي، ومعرفة أحوالها هي!.
ـ كنا نحفظ عن ظهر قلب: الخبر الصحفي ليس في أن كلبًا عض إنسانًا، لكنه في أنّ إنسانًا عضّ كلبًا!. مع برمجة التواصل الأسرع انتشارًا، صار يصعب على الصحافة الورقية حتى الانفراد بالخبر المطلوب تجاوزه، الورقية لا تسبق حتى بخبر عضّة كلب لإنسان!.
ـ بقي من المساحة، قليل، بالكاد يكفي للحديث خطفًا، عن رائعة سبيلبرغ السينمائية الجديدة "The Post":
فيلم يتحدث عن أهم ما في الصحافة، ليس الخبر، لكن لحظة اتخاذ القرار بنشره!. أي حديث عن هذا الفيلم لن يفيه حقه، كأنك تتحدث عن أغنية، هل يُغني مديحك لها عن سماعها؟!، سأختصر، منتقيًا ثلاث عبارات من الحوار، علقت في الذهن:
ـ "الخبر هو المسودة الأولى للتاريخ"!.
ـ "عندما يقول لك كثير من الناس إنك لن تنجح؛ فمن الصعب عدم تصديق ذلك"!.
ـ "الصحافة لخدمة المحكومين وليس الحكام"!.