المهن تتشابه، إلا الصحافة.. يقرر طالب ثانوية في قرية نائية على أطراف دولة إفريقية نامية، أن يكون طبيبًا أو مهندسًا أو محاميًا أو معلم فيزياء.. فقط يقرر ثم يجتهد وينتظر توفيق الله.. إنها مهن القرارات الجاهزة والأحلام المعلبة، والآمال الواقفة طويلاً على أرصفة الحياة..
وما يقال عن هذه القرية الطامح طلابها، يقال بذات الدرجة وذات الأسلوب عن كل قرى ومدن الدنيا.. عندما تحصد درجات عالية في السنة الثانوية الأخيرة تشرع أمامك الأبواب.. فتختار أي كلية تنهل من بحارها علمًا يؤمن وظيفة تضمن لك حياة هانئة كريمة.. تختار مهنتك بنفسك وربنا الرزاق الفتاح العليم.. الصحافة شيء آخر تمامًا.. المهنة هي التي تختار جنودها وضباطها وجنرالاتها.. ربما لذلك أسموها صاحبة الجلالة..
إذا تقدم بك العمر وأهداك الزمن ولدًا صالحًا يدعو لك، فلا تسأله عن أمانيه قبل أن يبلغ الحلم.. الأطفال يتمنون إذا شابوا وكبروا أن يكونوا طيارين أو ضباطًا أو أطباء.. لم تنجب النساء بعد طفلاً يمني النفس أن يكون صحفيًّا.. لا يتمنى الأطفال أن يكونوا صحفيين.. الأسباب كثيرة.. أولها وأهمها وأسهلها وأقصرها، كون القراءة ليست من اهتماماتهم، فلا يعرفون مهمة ومهنة الصحافة.. أما السبب الأكثر عمقًا وجوهرية، أن المسألة تحتاج إلى موهبة.. تتعلم وتصبح طبيبًا وتتعلم وتصبح مهندسًا ومحاميًا وضابطًا ومدرسًا، لكن أن تصبح صحفيًّا من خلال التعلم فقط فهذه فيها قولان..
صحيح هناك صحفيون كثر ابتليت بهم هذه الصنعة.. بعضهم جاءها للانتفاع بعد أن هبطوا عليها بالبراشوت، فصارت بالنسبة لهم مثل المائدة التي أنزلت على أصحاب عيسى.. الصحفيون المنتفعون قضية لا يمكن التعاطي معها على عجل.. هذه تحتاج إلى كلام لا يمكن قوله كاملاً.. أما ما يمكن قوله بعد كل هذا الكلام الذي يبدو مشتتًا وتائهًا.. فإن الصحفي الذي تريده الصحافة وتنتظره، كالمرأة العاقر التي تنتظر حملاً يأتي بلا مقدمات.. يأتي أحيانًا بالصدفة..
المهنة الوحيدة التي تستغني عن العلم والتعلم بلا شهادة.. قد تكون صحفيًّا لامعًا وعظيمًا.. صحفيون مهرة كثيرون "مش بتاع علام".. هناك قائمة صحفية طويلة ونماذج مشرفة نجحوا وملؤوا الدنيا إبداعًا وضجيجًا ولم يعرفوا طرق الجامعة.. أن تكون صحفيًّا رائعًا ليس شرطًا أن تذهب إلى كلية الإعلام.. إذا تحركت الصحافة في داخلك ثم أكملت الموهبة بالتعليم، فذاك مجرد زيادة.. والزيادة مثل النقصان في كل شيء.. ما أجمل أن تكون متوازنًا.. التوازن لعبة العقلاء.. لكن الصحافة للأسف تستوعب حتى المجانين.. تخيل!!