لغة الثناء لا تكفي، ثم إنها خدّاعة، يُمكن لأمرها أنْ يلتبس عليك، فتتوهّمها جميلةً فقط لأنها مُرْضِيَة، وتظنّها رشيقةً فقط لأنّها مُوَالِيَة، ثمّ إنها لغة يصعب توخّي الحذر منها، لما فيها من مودّة!. لغة يشفع المكنون في قلب صاحبها لمسامحة المُكَوَّن فيها والمُكَوِّن لها، للزاوية التي يتم منها تناولك، وللأسلوب الذي تجري عبارات الإطراء عليك من خلاله وفيه!. يكاد يعميك كَلَفها عن تكلّفها!.
ـ تعرف أنّك كاتب جيّد، من لغة منتقديك أيضًا!. لا يكفي أنْ تكون لغة المُحِبّ المُعجَب جيّدة فحسب. من المُهمّ أن تَحظى بلغة نقديّة مُضادّة، شرط أنْ تكون جيّدة، مسبوكة ومحبوكة، وجيهة، رفيعة وذات وقار!. وليس أدلّ على وقار لغة ما، من قدرتها على أنْ تجعلك متسامحًا معها، تصفح لها حتى عن الشغب فيها وإنْ آذَاك!.
ـ المشكلة أنّ مثل هذه النظرة الحالمة بوجود مثل هذا النقد، حالمة فعلًا، وحالمة فقط!. والمصيبة أن تظلّ حالمة إلى الأبد!، والرّاعب أنّ هذا هو ما تتجّه به وإليه كل وسائل التواصل الحديثة تقريبًا!.
ـ قبل وسائل التواصل الحديثة هذه، كانت ردود الفعل أقلّ مباشرةً، وأبطأ بكثير. ونعم في الأمرين: "قلّة المباشرة والإبطاء"، وفي التشوّق لهما، والدفاع عن زمنهما، ما هو قمعي!، لكنني وأمام ما يحدث اليوم، أرفع يدي ملوّحًا بتحية شكر لذلك الزمن، وأكتب مدافعًا!.
ـ كان الإبطاء، في معرفة ردود الفعل، يسمح للفعل الكتابي أن يتشكّل أصلًا!. وكانت صعوبة التواصل المباشر بين الكاتب والقارئ تسمح بأمرين في غاية الأهميّة، الأول: نموّ الفكرة والإحاطة بها!. الثاني: تأجيل ردّة فعل الجمهور إلى ما بعد تداول الأفكار والمعاني مِنْ قِبَل أهل الكتابة والمفكرين وأهل الاختصاص أنفسهم!. كان يمكن للأفكار، للنتاج الأدبي والفني والفكري والفلسفي، أن يروح ويجيء، ويروح ويجيء، مرّات عديدة، في سجالات مديدة، تسبغ عليه حججها، تسنده، أو تَفُتُّ في عضده!. ثم بعد ذلك يأتي دور "عامّة" الناس، يقولون فيه ما يقولون، ويرون فيه ما يرون!.
ـ اليوم، ومع وقوع الجميع تقريبًا في شبكة العنكبوت، صار من الصعب، ما لم يكن من المستحيل، التحكم في فكرة ما، وانعدمت كليًّا إمكانيّة مداورتها بسلام ونزاهة!.
ـ كانت الرسائل تُغلّف وعلى الظرف يُكتب اسم وعنوان المُرسَل إليه. اليوم الرسائل مفتوحة، ومكتوب على كل ظرف من ظروفها: للجميع فقط!.
ـ وعلى نحوٍ لم يسبق له أن دار في أحلام ولا حتى في كوابيس: كل فُرَص البتر والاجتزاء والتحريف والإجهاض والتأليب والتّشفّي، تعيش أفضل سانحاتها!.
ـ يا للأسى. غابت أو تكاد، إمكانيّة حضور الضّدّيّات، الجادّة والمحترمة!. غابت أو تكاد، إمكانيّة انتقاء الأعداء!.
ـ انحدار عنيف ومروّع ما يحدث الآن. وعمّا قريب ستحل الكارثة، ليس فقط حين تنسى العيون قدرتها على التأمّل، لكن ـ وبالذات حين تظنّ أن التأمّل والمراقبة هما الشيء ذاته!.
ـ الحديث يطول، عمومًا انتبه. كل لغة تريد إغضابك أو إخافتك، هي ليست نقدية!. من يسعى لإغضابك، يريدك أنْ تُخطئ!. ومن يسعى لإخافتك يريدك أنْ تسكت!.