إلقاؤك هاتفك وحاسوبك المحمول وأجهزتك الإلكترونية كافة في بئر ما، حتى إن قررت عقبها الاضطجاع قصيًّا بين مدينتي الرياض والدمام، مستريحًا على جانب الطريق، ذلك لن ينجيك ولن يعصمك من أن تستيقظ فزعًا على صوت "ِشيلة"، تتسرب من الشبابيك المواربة، آتية من هواتف العابرين بسياراتهم.
انحدار الإبداع الإنساني الحديث في التاريخ المعاصر، بما فيه تراجع الأغنية فنيًّا، جعل المساحة الصوتية خالية إلى أن ملأتها "الشيلة"، وتسرّبت أنباء ـ كما قال لي صديق في الحارة ـ أن قبيل انهيار الأغنية طلبت شركات الإنتاج الفني اجتماعًا عاجلًا، متقابلين على طاولة واحدة مع المطربين، تكشّفت النتائج سريعًا بفوز عريض لصالحنا ـ نحن معشر الشباب ـ منذ بدأت بعض المطربات إظهار مساحات خالية جديدة من أجسادهن، طاشت أذهاننا انبهارًا على الصعيد الفني، فكنا نصفق بحماسة إبّان إنصاتنا للأغنية بأعيننا. وهناك بدوره يغني المطرب عاجنًا وجهه ويتلوى به، ساعيًا بكامل طاقاته الشعورية الفقيرة ستر رداءة لحن الأغنية، وسذاجة كلماتها الشعرية التي كتبها رجل الأعمال الذي دائمًا بسببها ما يحصل على مكانة أعلى اعتباريًّا مقابل تشويهه لحسّنا الجمالي. ذبلت الحناجر، وساد صمت حالك في سنواتنا، حتى تدفقت الحياة بغتة داخل شريان عالمنا عبر صوتٍ بدوي بشيلة "حي من يقدم ولا يحسب حساب الظروف"، ماج الناس وهاجت قلوبهم، عادت محلّات التسجيل للعمل، مشاهدين اكتظاظًا خانقًا على مداخل أبوبها. وأقول في النهاية بعد أزمة غياب الصوت الذي يتحدّث باسم مشاعرنا ويشدو بعواطفنا، يجب بنظري الوقوف مع الشيلة عوضًا عن الأغنية الحالية الهزيلة، من المصداقية مع أنفسنا الاعتراف بها ـ أي الشيلة ـ كصوت يستحق بجدارة يظل عاليًا وصاخبًا بكامل بشاعته الرائعة..
ما الجرم في لحنها الإيقاعي الطائش؟ وكلماتها اللاأخلاقية التي تحث على البطش وعلى النعرات القبلية؟ ما العار في العودة إلى بدائيتنا والتشكيك في عدالة القانون الذي يجرّم نزاعاتنا بين بعضنا بعضًا؟ وبصورة غير مفهومة يُمنع شبقنا المحموم للاعتداء! هذا التهذيب الحضاري الجديد تطلّب علينا بشكل فنِي، اختراع لغة صوتية متخلّفة تعلن رفضنا ومقاومتنا، لا أجد أن الشيلات الحديثة سوى انتصار اجتماعي مقزز يستحق لفوزه التصفيق له ورجمه بالقوارير وبكل ما تتلقفه أيدينا.