|


No Author
القصيبي بين ليبيا واليمن! - طلال الحمود
2017-08-27

مرّت الأسبوع الماضي الذكرى السابعة لرحيل الأديب والسياسي غازي القصيبي، وسط إجماع تشكّل منذ وفاته على "استثنائية" شخصيته التي شهد لها خصومه قبل مؤيديه. كان لهذا الرجل من القرارات الإدارية  الصارمة و"الشرسة" أحيانًا، ما يجعله مكروهًا من المقصرين والفاسدين إلى يوم يبعثون، وفي المقابل له من الأعمال ما يكفيه لترجيح كفته ونيل الثناء حيًّا وميتًا.

 

ولعل الصورة الذهنية السائدة خلال السبعينيات والثمانينيات عن القصيبي، لا تمثل جزءًا يسيرًا من شخصيته التي اكتشفها الناس لاحقًا، بعد ظهور القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي.. إذ اعتاد رجل الشارع البسيط على أخبار العقوبات القاسية التي يصدرها الوزير ضد المتهاونين في وزارته، كما اعتاد على أخبار إنجازاته في القطاعين الصناعي والصحي، التي تبرهن على شخصيته الجادة أيضًا، ولم يكن أكثر الناس في تلك الحقبة يعرف أن القصيبي شخصية تلقائية وساخرة، يمكن أن تملأ الكون ضحكًا وبهجة.

 

لفت القصيبي نظر الملك خالد عندما تحدث إليه للمرة الأولى، وبات وزير الصناعة والكهرباء من مرافقي الملك في زياراته الرسمية وإجازاته الخاصة، ولعل السبب يعود إلى أن الملك خالد كان صاحب ذائقة شعرية وعبارة لاذعة، وهو ما عرفه القصيبي حين سأله الملك: "هل أنت شجاع يا غازي؟"، قبل أن يجيبه الوزير بتلقائية: "والله يا طويل العمر ما أدري، حتى الآن ما واجهتني مشكلة"، كانت الإجابة وتعابير وجه القصيبي مع تكوينه الجسدي وطوله الفارع، تكفي لأن يدخل المجلس ومعه الكون في نوبة ضحك يصعب إيقافها!.

 

وفي زيارة إلى ليبيا اختار الملك خالد، الوزير القصيبي لمرافقته، ويكفي أن المضيف معمر القذافي لتكتمل أدوات المشهد، وهي الرحلة التي عانى فيها القصيبي لتأخير انفجاره بالضحك طويلاً، كان الملك يسأل القذافي بعد وصوله إلى ليبيا عن المدينة التي يوجد فيها مقر الرئاسة، فأجاب القذافي أن الجماهيرية ليس لديها رئيس، ثم طرح الملك السؤال بصيغة ثانية، حين استفسر عن المدينة التي يوجد بها مقر الحكومة، قبل أن يجيب العقيد بأن ليبيا لا توجد فيها حكومة وأن اللجان الشعبية هي من يحكم!، عاد الملك مجددًا لطرح السؤال بما يوازي قدرة القذافي على الفهم، قائلًا له: "أنت وربعك وين مقركم الدائم"، فأجابه القذافي: "نحن في طرابلس"، فجاء الرد تلقائيًّا من الملك: "إذًا مقر الرئاسة في طرابلس يا معمر"، وهي الإجابة التي كانت كافية لتوتر العلاقات بين البلدين، لو لم يسيطر القصيبي على رغبته الملحة بالانفجار ضحكًا من أسئلة زعيم عاقل، وإجابات زعيم لا يمتلك من العقل مثقال ذرة!

 

كان الملك خالد يعرف أن القصيبي يمتلك شجاعة كادت تودي بحياته يومًا، وهي القصة التي تعود إلى العام 1967، حين كلف الملك فيصل لجنة عليا بمتابعة اتفاق إنهاء الحرب في اليمن، وتم اختيار غازي القصيبي لعضويتها، ويروي الأديب الراحل كيف تغيرت نظرته إلى الرئيس جمال عبد الناصر من الإعجاب إلى ضده بمجرد وصول الطائرة إلى صنعاء، تساءل القصيبي في نفسه عن رجاحة عقل الرئيس المصري حينها، بعدما رأى مئات الطائرات، وأرتال المدرعات والدبابات، وآلاف الجنود في شوارع صنعاء، بعيدًا عن الجبهة المصرية ـ الإسرائيلية بنحو ثلاثة آلاف كيلومتر!.. قضى القصيبي شهورًا طويلة في اليمن وسط ظروف أمنية صعبة، وذات ليلة ذهب مع رفاقه في اللجنة السعودية إلى دار السينما في صنعاء، وأثناء وجودهم انفجرت عبوة ناسفة دمرت جزءًا كبيرًا من المكان، وشاءت القدرة الإلهية أن ينجو القصيبي ورفاقه من الحادثة. بعدها تلقى مكالمة من مسؤول في الرياض، يسأل إن كان لوجود الوفد السعودي دور في استهداف السينما، فرد القصيبي: "لا أعلم.. ربما يكون وجودنا سببًا في الاعتداء، وربما تكون ثورة شعبية ضد الأفلام الرديئة التي تعرضها هذه السينما التعيسة"!.

 

عرف غازي القصيبي طعم الانتصارات طويلاً، وتجرع مرارة الانكسارات أعوامًا، غير أن شعبيته كانت في ازدياد يومًا وراء يوم، بعيدًا عن تلك التجارب بحلوها وعلقمها، حتى بلغت شعبيته ذروتها حين ذاع نبأ وفاته، تاركًا للأحباب حسرة الوداع، وللأعداء مراجعة النفس واللحاق بركب المنصفين في الأرض.