ـ في واحدة من أمسيات الأبنودي، قاطع الجمهور الشاعر مرّتين بالتصفيق، في الثانية أو في الثالثة على ما أتذكّر، طلب شاعر العاميّة الفخم من الجمهور طلبًا عجيبًا: أرجوكم أوقفوا التصفيق، أو أجّلوه إلى نهاية القصيدة!.
ـ يومها كنت ضمن الجمهور، كنّا مجموعة من الشعراء الشباب، المبتدئين، كانت مقاطعة الناس لنا بالتصفيق تعني الكثير، تحقق النشوة وتصيب الأحلام في مَحْيَا!، ولذلك استغربنا طلب الأبنودي، ولم نفهم بسهولة سبب تأفّفه، احتاج الأمر إلى سنين، قَصُرَتْ عند بعضنا وطالت عند بعضٍ آخر، وربما لم يستوعبها بعض منّا إلى اليوم!.
ـ كنّا نقيم أمسيات شعريّة في كل مكان، بما في ذلك الأعراس الخاصة برفاقنا، وأتذكّر أنني في حفل زواج أحد الأصدقاء، قرأت شعراً، ليلتها فهمتُ شيئًا من قول الأبنودي، لم يكن الجمهور جمهور شعر، كانوا "معازيم" وضيوف عرس، وكان للتصفيق رائحة المجاملة، تذكّرت شرط أستاذنا الأبنودي، وبغطرسة صِبَا زِدْتُ عليه، فطلبتُ طلبًا كاريكاتيريًّا: أرجوكم، صفقوا فقط عندما لا يعجبكم البيت وعندما لا تروق لكم القصيدة!.
ـ يمكن للمستعجل منكم، قفز الفقرة التالية، جاءت بها الذكرى وهي ليست في صلب الموضوع وأقولها للتسلية: مرّةً أقمتُ مع الشاعر المبدع سليمان المانع أمسية، لا لم تكن أمسية، كانت "أُصبوحة"، وكانت في مستشفى، بهدف تسلية المرضى، لم يكونوا قادرين على التصفيق، ربطات العنق الطبيّة، والشاش الأبيض على الأذرعة كان حاضرًا، بالرغم من ذلك وبسببه استمتعنا، ووصَلَنا الإحساس والتفاعل بشكل محبّب وعجيب، هذا بالرغم من أن بعضهم لم يكن يعرف العربيّة أصلًا!.
ـ تفضيل فيروز على أم كلثوم، أو العكس، تفضيل طلال على محمد عبده، أو العكس، ليس مسألة تشجيع كروي!، الأمر يختلف..
ـ في الفنون أنتَ تفضِّل بشكل شخصي ما يتناسب مع هذا الشخصي الذي فيك!، على الأقل يمكن لي تفهّم ذلك الآن، وهي مناسَبَة لأعتذر من أم كلثوم التي تبجّحت عليها كثيرًا في شبابي، لم أنتشي بها قبل سن الأربعين، تأخرتُ كثيرًا!، لكن...
ـ أم كلثوم تدعوك للتصفيق أولًا، بعد ذلك يمكنك التأمّل، وبالرغم من ذلك، وهذا إحساسي الخاص: لا يمكن لك تخيّل صوت أم كلثوم دون جمهور!، وربما هي لذلك موجودة إلى اليوم في المقاهي العامّة أكثر!، بينما صوت فيروز يدعوك للتّأمّل أولًا وثانيًا وإلى ما لا نهاية!، وربما هي لذلك موجودة في البث الإذاعي وفي انتقاء المسجّل الخاص بك، أكثر من حضورها في ساحات التجمّع!.
ـ مثل هذه التفضيلات، متى ما خَلَتْ من أي حِس دعائي، تدلّك عليك، وتحمي إبداعات الآخرين منك!،..
ـ لأن الفهم يتيح لك فرصة قراءة الآخرين بشكل أطيب وإنصافهم!.
ـ أطلتُ عليكم، أعتذر وأختصر: التصفيق مثل الضحك، هو في حقيقته حُكْم نقدي!.
ـ كونديرا يصطاد معناه، إنه: "يعني، أصغيت إليك بانتباه والآن أعبّر لك عن تقديري"!، بما يعني الانقطاع عن التأمّل ولو لفترة، وهي مهما قَصُرَتْ فإنها فترة مُحاسَبَة!، فترة خروج من الاستسلام التام والكلّي للعمل الفنّي!.
ـ والفنان الحقيقي، ومهما راق له الأمر من الخارج، فإنه يقلقه داخليّاً، ويربكه نفسيًّا، وربما يدلّه على نقصٍ ما في عمله الذي لم يتمكّن من السيطرة التامة على متلقّيه!.
ـ الآن يمكن لي فهم الأبنودي أكثر من أي وقت مضى!.