نَوْلُ المعنى، الإمساك به كاملاً، بما لا يقبل شكًّاً يسمح بتأويل، ولا انحرافةً تسمح بإضافة، ولا أي احتمال آخر، مسألة تَرُوحُ بالفن إلى المصلحة لا إلى الحُسْن، إلى الفائدة لا إلى المتعة، إلى المنفعة لا إلى الجمال.
ـ غياب المنفعة، رجوعها إلى الوراء، مسألة مهمّة، للانفراد بتأمّلات فنيّة وجماليّة، نضرب مثالاً:
ـ أمام الورقة النقديّة، أو العملة المعدنيّة، يكون تفكيرنا قائماً على قيمتها السّوقيّة، وربما على التأكد من أنها غير مزوّرة، نفكّر بمنفعيّتها، وصلاحيّة تداولها، بينما تتراجع كثيرًا، كثيرًا جدًّا، مسألة تأمّلها فنيًّا وجماليًّا.
ـ لكننا فيما لو قلّبنا بين أيدينا عملة نقديّة، مضى عليها مَثَلًا ألف عام، ولم يعد لها أي قيمة منفعيّة كعملة، فإنّ تفكيرنا يذهب، أوّل ما يذهب إلى تأمّلها جماليًّا، إلى الإحساس بها فنيًّا، حتّى لو حاولنا التنبّه فيما بعد لمنفعيّتها للتّمصلح من ورائها، لمقايضتها بثمن مادّي.
ـ حين نترك الورقة أو العملة النقديّة جانبًا، ونتحدّث عن الأعمال الفنيّة والأدبيّة، فإنّ أي قيمة منفعيّة لعمل فنّي قديم تنتهي تمامًا، ولا يعود لهذا العمل غير ما هو فنّي وأدبي وجماليّ، وعلى حصيلته من الفن والأدب والجمال، تكون قيمته ترتفع أو تتدنّى.
ـ كذلك فإن قيمة منفعيّة مباشرة لعمل فني جديد، مهما عَلَتْ، بل ومهما بدَتْ ساميةً، فإنّ ذلك لن ينفع العمل الفنّي في شيء، ولن يعينه على صمود وبقاء، ما لم يكن فيه جماليًّا وفنيًّا ما يسمح له بذلك.
ـ قد يقصد المبدع من عمله الفني منفعةً، كأنْ يكتب شاعر قصيدة غزل، وكل أمنيته من كتابتها نَوْلُ الرِّضا وطيب الوِصال، هذا لا يهم، ويفعله المبدع وغير المبدع، الفرق أنّ المبدع لا يقدر على التّنازل عن فنيّاته، عن تخصيب كلماته بدلالات حُسْنٍ، هو إذ يكتب لا يأخذ من محبوبته سوى حقيقة قابليّتها للتخيّل.
ـ لا يهمّنا في شيء، لماذا رسم فان جوخ لوحة "آكِلُو البطاطا"؟!، لكن بالتأكيد لو كانت المسألة لها علاقة بقيمة البطاطا الماديّة وقتها، أو الصّحّيّة في كل وقت، لما صارت أيقونةً فنيّة.
ـ ربما في يوم من الأيّام تحدّث الناس، عامّة الناس عن أفضليّة لقصيدة شاعر ما على قصيدة للمتنبّي، فقط لأنّ سيف الدولة أعطى شاعرها هِبَةً أعلى، لكن اليوم، وبعد كل هذه السنين، ما الذي بقي: جماليّات أدب المتنبّي وفنونه الشعريّة، بينما لم يتبق شيء للآخر، لا قصيدته ولا هِبَة سيف الدولة، حتى اسمه غائب، نستحضره بقولنا: شاعر ما.