ربما أمكن التمييز بين الموهبة والجهد، غير أن الفصل بينهما يظل عصيًّا على الفهم، وعمليًّا يكاد يكون من المستحيلات، ما لم يكن العمل الفنّي هزيلًا، أو أن يكون من الأصل عملًا إداريًّا خالصًا وليس عملًا فنيًّا أبدًا!.
ـ العمل الفني المُعْتَبَر، مثل الكائن الحيّ، نقدر بفكرنا، ويكون هذا منتهى أملنا في تأمّلنا، أن نميّز فيه بين الروح والجسد، بين مرئيّ ماثِل ملموس، وبين خفيّ مكنون محسوس، بين ما له وزن، وبين ما له قيمة!، بعد ذلك ينصبّ كل عملنا على الملموس الخاضع لإمكانيّة القياس، أي على الجسد، عليه ومن خلاله، بإيمانٍ نافِذ أن ذلك من متطلبات المحسوس، وبنورانيّة من الروح، منها وإليها!.
ـ في العمل الفني، الحيّ بحكم فنيّته، لا يمكن القبض على الموهبة، معزولة عن الشكل المُنْجَز، بل حتى مع الشكل المُنْجَز، يظل قولنا "القبض على الموهبة"، قولًا متغطرسًا وخاطئًا، كل ما يمكننا هو الإحساس بوجودها، الإشارة على ظلالها، أما ما نُمسك به، ما يمكننا فحصه وتشريحه، وإثبات الدليل عليه أو استخدامه هو نفسه دليل، فذلك هو الشكل المُنْجَزْ!.
ـ كل ما في مقدورنا، مُسَاءَلَة وتقييم العمل الفني من خلال الجهد المبذول فيه، من خلال المُنتَج منه وليس المنتِج له، من خلال شكله، هذه هي مهمة النقد وهنا أهميّته، حتى مع دخول الفلسفة بهيلمانها كاملًا في مجال النقد الفني والجمالي!.
ـ واحدة من أكبر كذبات المتنبّي أنه ينام ملء جفونه عن شواردها، أو لعل فهمًا ملتبسًا لمن شرحوا المعنى وفسّروه، جعل من رمي المتنبّي بالكذب جائزًا!، الأكيد أنه ومن خلال الشكل الشعري المُنْجَز، لا يمكن إلا الشهادة لأبي الطّيّب بجهد عظيم مبذول في كل قصيدة وفي كل بيت منها، ومن خلال هذا الشكل، المبذول فيه من الجهد الكثير، تشع الموهبة، نتحسسها، نجد آثار خطوها في القول الشعري، ونعرف أنّ ما على وجه هذا البيت أو ذاك من الوشم، ما لا يمكن لغير نبوغ وعبقرية رسمه، نعرف موهبته من خلال جهده، شأنه شأن كل فنّان مُبدِع!.
ـ يمكن للفنّان أن يكذب، فلا يبيّن حقيقة جهده، لكن هذا لا يقودنا إلى شيء متى صدّقناه، وتحديدًا متى ما اعتبرناه قولًا صالحًا لقياس نقدي!.
ـ الموهبة مثل الروح، لا تشيخ ولا تموت، ولنأخذ دييغو مارادونا مثالًا، فيما لو لم نتابع ركضه في عز نشاطه، فيما لو لم نعرفه مطلقًا قبل سنة من الآن، وقرر اللعب مع أي عشرة شباب آخرين، فإنه لا يمكن حينها إلا الاستهزاء به، والصفير استهجانًا لوجوده، إذ يصعب على أي عشرة لاعبين شباب يُضاف إليهم، أن يكون غيره نقطة الضعف الأكبر!، وهو إذ يلعب اليوم فلأن كل من معه وكل لاعبي الخصم يعرفون أنه مارادونا، هذا يمرر له، وذاك يحذر الالتحام معه!، لكن مارادونا نفسه وحين تصله الكرة اليوم، حين تخذله لياقته، حين يفرض اليباس شروطه وتعلن المرونة انسحابها، يكون الوحيد تقريبًا الذي يعرف أنه ليس مارادونا!، يستمتع قليلًا باللعب لأنه يحب كرة القدم، لكنه يتحسر كثيرًا، وربما يتهرب من مَهانةٍ يستشعرها، حين يتأكد له أن خصمه اليوم خائف عليه وليس منه!.
ـ الجهد قلب، والموهبة ضمير!