ـ كنا نستمع إلى موسيقى بليغ حمدي، حين سألني صديقي فارس عوض: هل يمكن القول بوجود فن خالِد؟!.
ـ وللأمانة فإن هذه طبيعة في فارس عوض، لا يسأل عن جهل، لكنه كلّما أراد فتح موضوع بدأه بسؤال. الآن وأنا أكتب هذه الكلمات، يتكشف لي شيء من غروري، كيف لم أتعلّم هذه الطريقة الكريمة في فتح المواضيع، وقد حباني الله بمجموعة من الأصدقاء يفعلون ذلك كل مرّةٍ دليل حياء وكرم نفس وتواضع، أخص منهم: مسفر الدوسري، وسامي الفليّح، وزايد الرويس، وفارس عوض طبعًا؟!.
ـ من فوائد الكتابة على أي حال، أنّنا وفي أثنائها نلتقي على غير موعدٍ مع ذواتنا، فتتكشف لنا نقائصنا، مانحةً إيّانا فُرصة للتعلّم والتحسّن، أسأل الله ألا يكون تفويت مثل هذه الفرص نقيصةً في ذاتي، خبيئةً، فلا أتعلّم!.
ـ أشكر لانفلات الكلمات تبيان نقصي، وأشكر للاستطراد السابق اختصاري، وأعتذر له عن التوقف، ولكم أعتذر عنه، وأعود لبدء: هل يمكن لبعض الأعمال الفنيّة والأدبيّة ضمان الخلود، والمقصود الخلود في الدنيا؟!، هل يمكن لنا الاطمئنان إلى ذائقتنا وشهادتنا حين نقول: هذا عمل خالد؟!.
ـ أنقل لكم خلاصة ما توصّلنا إليه، وقد شاركنا أصدقاء آخرون أطرافًا وطرائف من الحديث، وفيه: أقصى ما يقدر عليه العمل الأدبي أو الفني المُبدع والخلّاق، هو ضمان "إمكانيّة" الخلود وليس الخلود نفسه!، في حين يُحرَم كل ما ليس نابهًا ومُشِعًّا من هذه "الإمكانيّة"، مهما طال زمن حضوره!.
ـ فكّرنا في سفينة نوحٍ عليه السلام، وكيف قدرت على حمل ما حملت من الكائنات، أضاء القلوب معنى خاص، استراحت له أنفسنا، في قوله تعالى: "واصنع الفُلْكَ بأعيننا ووحينا"، وأبحرنا متدبّرين، فلا نقف إلا عند فكرة أنّ حضارة عظيمة كانت على هذه الأرض، حضارة متفوّقة على كل ما نعيشه اليوم بمراحل كبيرة، ومتقدّمة بأشواط كثيرة، حضارة ماديّة بحتة، ظن إنسانها أنه صار قادرًا على كل شيء، ربما كانت هناك سفن أخرى، ووسائل إنقاذ جبّارة، فسفينة نوح ـ عليه السلام ـ لم تكن عاديّة وكانت فوق الطبيعة وبمعونةٍ ووحيٍ من الله سبحانه، فصناعتها لم تكن أمرًا فقط، ربما لو كانت كذلك لما صُنعت غير سفينة بشرية ضخمة، لكنها لن تقدر على مقاومة الطوفان، سفينة نوح جاء أمرها مزوّدًا بعناية إلهية: "بأعيننا"، وبوحي يفوق كل علم بشري: "ووحينا"؛ ولذلك ربما تبدو ضاحكة حكاية أن بقاياها راسية في تركيا أو في غيرها!، وربما كان ما في السفينة عدد قليل من الخلق والبقية كانوا مجرد خلايا مخصّبة!، فإن صحت مثل هذه الاحتمالات، فأين تلك الحضارة اليوم؟!، لا بد أن كثيرًا منها، من فنونها وعلومها وآدابها، كانت تحمل "إمكانية" الخلود الدنيوي، لكنها لم تخلد!.
ـ الحضارة الفرعونيّة هي الأخرى، مُغيّبة الأسرار، كيف تم رفع كل هذه الأحجار وبهذه الطريقة؟!، مسألة غير مقدور عليها إلى اليوم، وكل التفاسير مضحكة، والتفسير الوحيد المقنع، تفسير خيالي وافتراضي، لكنني أصدّقه أكثر من غيره، ولم أقرأه إلا عند الدكتور مصطفى محمود: لا بدّ أنهم كانوا قد بلغوا من العلم مبلغًا يسمح لهم بالتحكم في الجاذبيّة، تحديدًا في إمكانيّة إلغاء الجاذبيّة وتحييدها، على مساحة محدّدة من الأرض في أوقات محدّدة!، فعن طريق القدرة على إلغاء الجاذبية، أو التحكم فيها، يمكن لأكبر صخرة أن تصير مجرّد ريشة من حيث الثقل!، وسواء كان هذا ما حدث أم غيره، فأين تلك العلوم وأين العلماء؟، لم يخلدوا، وحتى الهرم نفسه لا يحمل غير "إمكانيّة" البقاء والخلود الدنيوي، لكنه لا يحمل الخلود نفسه!.
ـ هذا عن العلوم، التي هي سنن كونيّة وحسابات وقوانين أزليّة، فما بالنا بالفنون والآداب؟!، والفرق شاسع، فالعلوم تثبت أهميتها، في حين أن الفنون والآداب لا تؤكد على غير جماليتها، فالحياة من حيث هي حياة يمكنها أن تقوم دون فنون وآداب، ومهما كانت هذه الحقيقة محزنة، إلا أن إنكارها لا يقوم على غير حجج عاطفيّة!.
ـ المفرح أن الحقيقة العلمية، حتى إن اختفت، فإنها بتكرار التجريب والبحث تعود كما هي تمامًا، فالأرض كروية، وفيما لو حدث طوفان آخر، وعادت الحياة من جديد تقريبًا، من نقطة الصفر، فإن البحث العلمي يعود إلى نفس النتيجة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى سرعة الضوء مثلاً، أما المُحزن فهو يخص الفن، إذ لا ضمانة لعودة قصائد المتنبي على يد شاعر آخر مثلاً فيما لو غُيِّبت وفُقدت، فالفنون ليست حقيقة لتعود، وليست كذبًا لنتخلص من الحزن على فكرة فقدانها!.
ـ الخلاصة أنه لا ضمان لبقاء فن أو خلود أدب، كل ما هنالك أن الفنون والآداب الفخمة تمتلك "إمكانيّة" البقاء والديمومة والخلود الدنيوي!، ويبقى القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الضامن للخلود؛ ذلك لأنه ليس كتابًا بشريًّا، هو فوق الفنون والآداب وعلوم البشر، يحتويها ولا تحتويه!.