|


فهد علي
لئلا أكون مثل كلاي وبولت
2017-10-24

 

 

أظن أن معظم المجانين يرفضون هبة العقل عن دراية، إن لجرّاء حيازتهم شعورًا مزاجيًّا يكون بمثابة المحفّز الأول والسبب الرئيس لوصولهم إلى قلعة الجنون؛ لذا تأتي مخاليطهم الحسّية ملتهبة قبالهم، وتقدّم ذاتها كقرص دواء ليبتلعوه كمسكّن، بعدما يبتلعونه يقول ذلك القرص لأمعائهم وخلاياهم: لا داعي لمحاولة استيعاب حالات التناقض الدائرة حول العالم، دعوا منطقية العقل الرتيبة، وكونوا مجانين، ثم يكونون. 

 

ولأن في العصر الحديث، اخترع الإنسان حلبة ملاكمة ومضمارًا للجري، وساحة خضراء لكرة القدم ومسابح واسعة وعميقة، فشوهد تقدم حشود البشر ممارسين نشاطاتهم الحركية. أتى الإنسان الجديد ليمارس جنونًا مختلفًا، الجنون الجسدي الحديث، وفي الألعاب الرياضية لن ينال أولئك العقلاء شيئًا من التصفيق والإعجاب، كلها ستكون من نصيب المجانين، ارتدى "محمد علي كلاي" قفّازيه، لبس "هشام الكروج" و"محمد فرح" و"يوسين بولت" أحذيتهم؛ للركض بحماس مسعور حول مضمار فسيح. ربما تحديدًا تولّعي بـ "محمد علي كلاي" و"يوسين بولت"، يعود للرياضتين اللتين يمارسانهما. 

 

طوال حياتي أسعى لإصابة أحلامي بلكمات كي تضعف وتستسلم منهزمة أمامي، لكن لم أحصد واحدة منها، أو بأقل تقدير طمحت إلى أن أراوغ برأسي الثقيل تلك الأقدار التي حطّمت رأسي وفشلت في مراوغتها، كما يراوغ كلاي اللكمات المصوبة نحوه. 

 

وأنا أيضًا من سارع الحياة ودأب على الركض نحوها متعجّلاً، لكنني منذ البدء تعثّرت بالتأخّر، قد درست مرحلة الابتدائية متأخرًا سنة، ودخلت الجامعة متأخرًا سنتين، فربما لسلحفائية رتم حياتي قمت بشد تركيزي نحو "رويسن بولت"؛ للتصفيق له بحرارة على فرط سرعة أقدام هذا الرجل الراكض. 

 

إن ميزة كلاي وبولت صارت مشكلة في نهاية مسيرتيهما، الابتعاد عن العقلانية جعل الأول صاحب أقوى لكمة في العالم، والآخر أسرع رجل في التاريخ، حقق لهما ترفًا واسمًا لامعين يرددان في كل قارات العالم، لكن في النهاية، الهوس في التميز أنساهما قدراتهما الجسدية أمام عنصر الزمن، الذي يحترف إضعاف البشر ويزيد وهنهم حتى قدوم حتفهم، وصل كلاي سن الخامسة والثلاثين وبحوزته 55 انتصارًا مقابل خسارتين فقط، تعنته أرغمه على المواصلة؛ فنال ثلاث خسائر جديدة من أصل أربع مواجهات، كادت تمحو كل بريقه، لدرجة أنّها بعد اعتزاله قللت فعليًّا من عظمة اسمه العالمي، كذلك بولت، عجز عن إخماد شراهته نحو الذهب، فأصر على مشاركة أخيرة وودّع فيها المضمار قبل شهرين ببروزنية لا تليق به؛ ولأني لست "بولت" ولست "كلاي"، تورّطت بعقل محدود علّمني بفقر مقدرتي العادية؛ لذا طلبت من رئيس تحرير هذه الصحيفة الوردية الاعتزال والتوقّف عن الركض بكلماتي فوقها؛ كي لا أخسر بعضًا من "القراء العشرة" الذين يسألونني عن مقالاتي ويناقشونني أحيانًا حولها في الحياة العامة أو في "الواتس"، وما لي سوى العرفان لرئيس التحرير على تمسّكه بي؛ لذا في المقالة الأخرى "ألقاكم".