|


فهد عافت
رواية عن قصة حقيقيّة!
2017-10-28

 

ـ حين تبدأ تترات فيلم سينمائي بجملة: "هذا الفيلم عن قصّة حقيقية جرت أحداثها في..."، أتقبّل الأمر، وفي بعض المرّات أجده مُسليّاً، فأنا كمتفرّج سينمائي، ألعب مع فيلم السينما على أرض محايدة نوعاً ما، رغم تحفظي التام والدائم على كلمة "حياد" هذه، والذي أعنيه تحديداً أنني في تداخلي مع الفيلم أعي أمرين: ما يتم تشخيصه قد يكون وهماً لكن الأشخاص الذين يقومون بالتشخيص لهم وجود حقيقي سابق ولاحق، أعرفه وأعيه..

 

ـ لكن ما أنْ تنتقل هذه الجملة، وتحط على غلاف رواية، فأقرأ: "هذه الرواية مستوحاة من قصة حقيقية"!، حتى أُصاب بالضجر!، وربما بشيء من الغثيان!، والأكيد أنني أشتكي من الأثر السلبي لمثل هذه اللافتات الصغيرة، أشعر برغبتها في استغلالي، إنني مجرّد زبون والكتاب بضاعة وإن سطر التنويه هذا ليس سوى عملية ترويج، وهي حين يتعلق الأمر بالعمل الروائي فإنها عملية ترويج ساذجة وحمقاء!.

 

ـ "هذه الرواية عن قصة حقيقية"!، ويصعب ترتيب أحاسيسي، وحين أقول أولاً وثانياً وثالثاً، فإنما أقولها مجازاً، وللحصول على تعبير أكثر نقاءً فيما يخص كل إحساس، أمّا عمليًّا فإن هذه الأحاسيس تهجم دفعة واحدة، وبجدلٍ مجدول يصعب فك ضفائره أو الفَكَاك من أظفاره!.

 

ـ أولاً، أشعر بأنني زبون سلعة لها تاريخ انتهاء صلاحية، وأن الكتاب عُلْبة، أفتح العلبة، أركّب الجهاز حسب أدواته وأسلاكه، أعرف ما حدث، وينتهي الأمر، فبما أنّ الأهم في الكتاب، الأهم لدرجة أنه قفز نافراً كتعريف، أن القصة حقيقية، فهذا معناه أنه وبمجرد معرفتي لما حدث فإنّ كل شيء يكون قد انتهى فعلياً، لدرجة أنه يمكن لي بعد ذلك رمي الجهاز.. البضاعة.. الكتاب!.

 

ـ لحظة يا أحبّة، أظن أنني وقعت على تعبير موفّق: أحس أن القصة الحقيقية هي السّلعة، وأنّ الكتاب مجرّد كتالوج لها!.

 

ـ ما لم يكن اسم الكاتب قادراً على الدفاع عن نفسه، وهو أمر لا يحدث عادةً مع كتب تُقدّم نفسها بهذه الطريقة، فإنّ مشهداً مقززاً يتمثّل لي: الكاتب وصاحب دار النشر يتباحثان أمرنا كقرّاء، يتحدثان وفي فم كل واحد منهما بقايا قضمة ساندويتش لم يتم التهامها كليّاً بعْد!، وأنّ توقيع مثل هذه الصفقات يتم غالباً بأصابع لم تتخلّص بعد من رائحة المايونيز!.

 

ـ دعك من احترامه، لا شيء يوحي بفهم الفن الروائي أصلاً في مثل هذه اللافتات التجاريّة!، تبدو المسألة مقلوبة، ففي حين أنني كقارئ أريد الخروج من الواقع للدخول في المتخيّل، تقول لي الجملة في المستوى الثاني منها مباشرة: نحن لا نكذب، ما نقدّمه لك حدث فعلا!.

 

ـ كل الحكايات حدثت فعلاً!، بما في ذلك رحلة آليس في بلاد العجائب، وحتى حكايات كليلة ودمنة وقصص ألف ليلة وليلة!، لكنها حدثت وتحدث بأشكال متقاطعة وموزّعة في حكايات الناس والزمن!، وميزة الفن في قدرته على التقاط هذه الحكايات ومزجها في حكاية واحدة، متخيّلة نعم، وهي كذبة نعم، لكنها كذبة لجمع الحقيقة الكليّة في كتاب واحد، وهي مهمة مستحيلة دون شك، لكنها تأخذ شرفها العظيم من محاولاتها العبقرية لتحقيق هذا المستحيل!.

 

ـ يكسب الفن احترامه وتقديرنا له عموماً من استمراريّته في الفشل!، ذلك لأنه يفشل في مهمة نعرف ويعرف أنها مستحيلة، لكنه يحاول، وهو في كل مرة، ومع كل عمل عبقري، يتقدّم خطوة، ويقترب أكثر، هذا يكفي، وتظل عظمة الفن في رفضه وعدم قبوله بأنّ "هذا يكفي"!، اللاء العبقرية في الفن ليست في غير هذا الموضع: لا.. هذا لا يكفي!.

 

ـ حين أصطدم كقارئ بعبارة: "قصة حقيقية"، أعرف أنّ هذا العمل لا يتحدث عني!، فالكاتب لا يعرفني، وبما أنه لن يكذب فنيّاً، لن يتخيّل، فأنا خارج الرواية، وهذا أول الكذب!،..

 

ـ لا أحد خارج الرواية!، ما لم تكن عملاً باهتاً ومهلهلاً وغبيًّا وشديد الضّحالة!، بل إنه وحتى مع بعض هذه الأعمال نلتقي بأنفسنا ولو في لمحة عابرة!،..

 

ـ الكتابة من حيث هي كتابة أصلاً وُجِدَت لنلتقي بأنفسنا في خطوط الآخرين، رغماً عنهم!.

 

ـ عبارة: "رواية مستوحاة من قصة حقيقية"، تطردني من العمل الذي تدعوني إليه!.

 

ـ في الفن الروائي تحديدًا، الإبداع المُبجَّل هو ذلك الذي يقدّم لي كذبة، فأكتشف أنها كذلك فقط لأنها أكبر من الحقيقة!، وليس ذلك الذي يزعم أنه يقدّم لي حقيقة أعرف، من قبل ومن بعد وأثناء..، أنها كذبة، كذبة أقل من أن تكون حقيقة!.

 

ـ ليس في الفن حقيقة، هو إما كذبة لأنه أكبر من الحقيقة، وإما كذبة لأنه أقل منها!.