|


حسن أبوزينب
محمد صادق دياب ذكريات من زمن العذوبة
2011-08-03
مازلت أضرب مترب القدمين أشعث في الدروب وكأنني بدر شاكر السياب.. أبحث عن واحة كم تفيأت ظلالها الوارقة وتنسمت نسيمها العليل ورويت ظمأي من غدرانها الصافية.. واحة كانت حتى الأمس القريب تتمدد في ملحق صحيفة الشرق الأوسط حيث تحلو الاستراحة من وعثاء البحث عن جماليات نادرة وسط ركام من لغو الكلام لم نجد لها مثيلاً سوى مع الراحل المقيم والكاتب المرهف الشفاف محمد صادق دياب نسأل الله أن يمطر قبره في هذا الشهر الكريم بشآبيب الرحمة والغفران بقدر ما أمتع قراءه الكثر في ذلك العمود اليومي الذي كان ينتظره على أحر من الجمر عشاق المفردة العذبة والكلمة الساحرة والعبارات المموسقة ينهلون منها الماء الرقراق ويشتمون منها العطر الندي.. عشت فترة من الزمان مرت كالنسمة وأظن أن الكثيرين يشاطرونني هذه المشاعر والأحاسيس الصادقة انسقت خلالها نحو ملحق صحيفة الشرق الأوسط ألتف بتلقائية وتجرد حول ذلك العمود كما الفراش يحلق ويحط رحاله على البنفسج والياسمين.. تلك كيمياء من الخيوط الحميمية نسجها ببراعة بينه وبين قراءه حتى أسرهم وأجبرهم على تغيير خارطة قراءاتهم لكي يغزو الصحيفة وعلى غير العادة بالمقلوب.. أكثر ما يستوقفك ويبهرك في كتاباته (رحمه الله) ذلك العمق والواقعية والقدرة للإبحار بمهنية عالية في العوالم الخاصة بالبسطاء والعامة من سكان الحواري والأحياء الطرفية المنسية.. يسبر أغوارها ويغوص في أعماقها ويعود محملاً باللآلئ والأحجار الكريمة.. تنقلك كتاباته وبالأخص قصصه في كتابه 16 حكاية من الحارة إلى عوالم العظماء في فن الرواية والقصة.. تلك الكوكبة التي خلدها التاريخ وأصبح إنتاجها ملكاً للبشرية منهم الطيب صالح وموسم الهجرة إلى الشمال.. نجيب محفوظ والثلاثية.. ارنست همنجواي وروايته العجوز والبحر والأخيران نالا منهما جائزة نوبل في الأدب، كتاباته عن جدة بأحيائها العتيقة وأزقتها الضيقة كانت تعزف على مسامع قرائه أوتاراً شجية وتوقظ في نفوسهم ذكريات عذبة وهم يبحرون معها وعبرها إلى المقاهي المتناثرة على ساحل البحر حيث تختلط أنفاس الرطوبة بروائح الجراك وأنغام السمسمية ونداءات الجرسونات الصاخبة (شاي منعنع حلا بره) مع حفيف أجنحة النوارس وصخب الموج المشتعل في الأفق البعيد.. ولأنني من أهل سواكن (ضرة جدة) التي تتكئ على خاصرة الطرف الغربي من البحر الأحمر والتي شيدت مبانيها البيضاء المزينة بالرواشين والمشربيات من قبل الحكم التركي فإنه كلما تصفحت عيني مشاهد من ذلك الزمان الذي لن يعود تهجم علي جحافل الشجن ترجني رجاً كاسحاً مدمراً.. هنا تبقى الذكريات وتنتشي الأحلام بشموخ الصواري وأجنحة العصافير وتشرئب خيالاتي إلى زمان بعيد وأرض مخضرة بفرح طفولي كم نعمت بها في تلك الديار.. ولكن ما ينكئ جراحي هنا أنه في الوقت الذي نشطت فيه وزارة السياحة السعودية بربانها الماهر الأمير سلطان بن سلمان في احتواء هذه الآثار النادرة بالعناية والرعاية عبر مشروعات طموحة من الترميمات لادخالها ضمن دائرة التراث والثقافة التي تشرف عليها منظمة اليونسكو فإن التراث الإنساني النادر لشقيقتها سواكن انكفأ على ركبته واستحال كوماً من الحجارة الصماء ينعق فوقها البوم وتجول فيها القطط الضالة.. كما وصفها ذات مرة صادقاً أحد خبراء السياحة الأجانب.
Now Only cats seem to enjoy life in the deserted streets and crimbling houses...
يبدو أنه لا شيء يستمتع بحياته الآن وسط الشوارع المهجورة والمباني المتصدعة سوى القطط، كانت تربط راحلنا العظيم علاقة خاصة بالسوادنيين، بادلوها حباً بحب، وعرفاناً بعرفان، إذ كان كثيراً ما يردد في كتاباته العبارة المشهورة التي سادت في العهد المايوي خلال فترة حكم الرئيس الراحل نميري تجسيداً لقلة خيارات البهجة (يا كفر.. يا وتر.. يا زولا ليلك (واسطة).