يفترض جبران خليل جبران أن بيتك هو جسدك الأكبر، ينمو في حرارة الشمس وينام في سكينة الليل وكثيراً ما ترافق نومه الأحلام، أفلا يحلم بيتك؟ ويتساءل هل يترك الحلم المدينة ويسير إلى الغابة أم إلى رأس التلة؟ ويتأوه ويقول لو أستطيع أن أجمع بيوتكم بيدي فأبددها في الأحراج والرياض كما يبذر الزارع زرعه في الحقول، أود لو كانت الأودية شوارع لكم ومسالك التلال الخضراء أزقة تطرقها أقدامكم عوضاً عن أزقتكم وشوارعكم القذرة ويا ليتكم تنشدون بعضكم بعضاً بين الدوالي والكروم ثم تعودون حاملين عطر الأرض في طيات أثوابكم، لكن توفيق الحكيم يقول.. الخيال.. هو ليل الحياة الجميل، هو حضننا وملاذنا من قسوة النهار الطويل، الواقع لا يكفي وحده لحياة البشر، إنه أضيق من أن يتسع لحياة إنسان كاملة، ويقول كيف أرجع إلى ما كنت قبلاً؟ نعم عشت من غير حب وعشت سعيداً ولكنها سعادة الأعمى الذي لم يرَ الجمال ولكنك فتحت عين الأعمى وجعلته يبصر وينبهر، فهل تحسبه إذا أرجعته إلى ظلامه الأول مستطيعاً أن يجد سعادته الأولى، فهل نترك لجبران أن يفترض أن أجسادنا بيوتنا، ولأن يتمنى لو استطاع أن يجمعها بيده ثم يبددها في الأحراج والرياض كما يبذر الزارع زرعه في الحقول لأنه يرى أن الأودية أنظف من شوارعنا وحتى تطرق أقدامنا التلال الخضراء عوضاً عن أزقتنا القذرة وهل يمكن لو تحقق ذلك كله أن نستطيع جميعنا أن ننشد بعضنا بعضاً ونعود حاملين عطر الأرض في طيات ثيابنا، آه كم يحلم الفلاسفة وكم يصعب تحقيق أحلامهم، وكم نحتاج من سنين ضوئية ليلحق فهمنا معانيهم، وكما جعل جبران من الأجساد بيوتاً أكبر تنمو في حرارة الشمس وتنام في سكينة الليل، اعتبر الحكيم أن للحياة الجميلة ليل هو الخيال، واصفاً إياه بأنه الحضن والملاذ من قسوة النهار، فيما اعتبر أن السعادة التي عاشها بلا حب تماماً كما هي سعادة الأعمى الذي لم يرَ الجمال لذلك فهو يرفض أن يعود للحياة الماضية بعد أن فتحت عينيه وأبصر وانبهر، وأتساءل أنا أيضاً عما إذا كان في الكون من نور يتسلل إلى العقول لينيرها وحرارة ليخبز بها القلوب بالوقار والسكينة والحب والفهم الفطري لماهية الروح وحاجاتها الحقيقية، أم أن أمثال هؤلاء الأوائل غابوا بها قوافل رحلت بالكاد نحن بين نقش أثرها وناي حدائها. كم العالم الذي ازداد بؤساً وشقاء بحاجة لهدهدات هذه التسابيح في سماء الروح، وكم لهذه الأجساد التي فقدت أرواحها في عطش لنقرات من مطر الكلمات المالحة التي تعيد لها الحياة، كل شيء وبعد أن صار متاحاً فقد قيمته وطعمه ولم يبقَ إلا ما لا تهبه إلا السماء من درر الفلاسفة والحكماء الذين نستند على ظلهم ونستدعي تلك الهالات على صفحات الورق كلما ضاق بنا مقام الليل الموحش في داخلنا.